Site icon IMLebanon

الليرة ستبقى مُستقرّة لأسباب موضوعية

 

 

في خِضمّ مُناقشة موازنة العام 2019 وارتفاع الضغوط الاجتماعية على الحكومة، تزداد المخاوف لدى المواطنين من إفلاس الدولة وانهيار الليرة اللبنانية وذلك على ضوء الإشاعات التي يقوم ببثّها البعض عن جهل أو بهدف الإستفادة من الفوضى. التحليل المالي والنقدي يُظهر متانة الليرة اللبنانية على الرغم من إرتفاع عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات.

 

المعروف أن العملة تبقى من الأصول المالية التي تتأثر قيمتها بالطلب عليها. هذا الأخير يتأثر بالعديد من العوامل (سياسية، إقتصادية، مالية، نقدية، وقانونية) التي تزيد أو تُقلّل من الثقة في العملة.

 

التخبّط السياسي الداخلي الذي عاشه لبنان خلال الفترة المُنصرمة لعب دوراً سلباً لدى اللاعبين الإقتصاديين وزاد من مخاوفهم من تعطيل للقرارات الاقتصادية والمالية للدولة. أضف إلى ذلك أنّ الخلافات مع دول إقليمية لها وزن في التعاملات التجارية مع لبنان أدّت إلى تراجع دخول الإستثمارات الأجنبية المباشرة إلى لبنان وتراجع نموّ الإقتصاد الذي ينعكس في الليرة اللبنانية. وللتأكّد من مدى تأثير العمل السياسي على الاقتصاد يكفي مقارنة أسعار سندات الخزينة اللبنانية بالدولار الأميركي بالأحداث السياسية والأمنية.

 

التخبّط السياسي الداخلي أدّى بدوره إلى تعطيل السياسات الاقتصادية للحكومات المُتعاقبة. فقد عجزت كلها من وضع خطط إقتصادية وتنفيذها، وبالتالي كان هناك إتجاه إلى سياسات آدم سميث عبر ترك القطاع الخاص يرسم هيكلية الاقتصاد التي وصلنا إليها اليوم مع تراجع القطاعين الأولي والثانوي وبروز قطاع الخدمات كمكوّن أساسي للإقتصاد اللبناني ما أدّى إلى عجز في الميزان التجاري. وبما أنّ قطاع الخدمات هو قطاع ذو قيمة مضافة منخفضة في الاقتصاد، أصبح هذا الأخير رهينة كل حدث أمني أو سياسي يضرب البلد.

 

غياب هيكلة صحيحة للإقتصاد وضعف مؤسسات الدوّلة أدّيا إلى تفشي ظاهرة الفساد وظهور عجز مُزمن في موازنة الدولة تحوّل إلى دين عام. ولم يستطع النموّ الإقتصادي إمتصاص هذا العجز كما تُظهره أرقام الميزان الأولي الذي بقي يُسجّل أرقاماً أقلّ من خدمة الدين العام وهي العتبة الضرورية للحصول على إنتظام مالي للمالية العامّة. بالطبع عجز الموازنة يلعب دوراً أساساً في خفض الطلب على الليرة اللبنانية.

 

على الصعيد القانوني وكنتيجة للتعطيل السياسي، تأخّر لبنان كثيراً في سنّ قوانين عصرية تُواكب التطور في المجتمعات وتُحاكي التكنولوجيا وقوانين اللعبة الإقتصادية مع توسّع العولمة ما أدّى حكماً إلى ضرب التنافسية للشركات اللبنانية مقارنة بالشركات العالمية. وكأنّ هذا لا يكفي، أمعن لبنان في ضرب القطاع الخاص عبر توقيعه على معاهدات تبادل تجاري حرّ مع العديد من الدول التي لا يُمكن لقطاعه الخاص من منافسة قطاعها الخاص.

 

التداعيات السلبية لهذه العوامل خلقت عاملين يضغطان على الليرة اللبنانية هما: عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات الذين يتمّ إستخدامُهما بشكل أساسي من قبل وكالات التصنيف العالمية التي أمّعنت في تخفيض تصنيف لبنان الإئتماني نتيجة تردّي هذين العاملين.

في ظل هذا الإطار الأسود تتجه الأنظار إلى مصرف لبنان وإلى سياسته النقدية (الثبات النقدي) التي نجحت خلال العقدين الماضيين في الحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية.

 

هل هناك من خطر حقيقي على الليرة اللبنانية؟ بالمطلق، هناك عوامل هيكلية تمنع إنهيار الليرة اللبنانية:

 

أولاً – إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية الذي يُشكّل ضمانة رئيسة لمنع أيّ إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.

 

ثانياً – الثروة النفطية والغازية والتي نُقدّرها (بأسعار النفط والغاز العالمية الحالية) بأكثر من 200 مليار دولار أميركي صافي للدولة اللبنانية. هذا الرقم وحده كفيل بوضع إهتمام رؤوس الأموال العالمية إهتمامها على لبنان وبالتالي التوجّه إلى لبنان.

 

ثالثاً – أن إعادة إعمار سوريا تمرّ حتماً عبر لبنان نظراً إلى الموانئ السورية لن تكفي لوجستياً لسدّ الحاجة لذا سيكون للبنان دور كبير جداً وبالتالي إستقطاب لرؤوس الأموال.

 

رابعاً – لا يُمكن بالطبع نسيان المليارات الآتية من مؤتمر سيدر والتي ستبدأ بالدخول إلى لبنان إبتداءً من منتصف هذا العام ما يعني حكماً خفض عجز ميزان المدّفوعات.

 

هل سيتمكّن مصرف لبنان من المحافظة على قيمتها؟

التحدّيان الكبيران أمام مصرف لبنان للمرحلة المُقبلة هما: عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات. من المفروض أنّ مشروع الموازنة المطروح بدأ بمعالجة عجز الموازنة عبر خفضه من 6.5 مليارات دولار أميركي في العام 2018 إلى أقلّ من 5 مليارات دولار أميركي في العام 2019. تمويل عجز الموازنة واستبدال سندات خزينة الدولة التي تستحق هذا العام كلها مؤمّنة من قبل مصرف لبنان ومن قبل المصارف التجارية من دون المساس بإحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية. لذا لا خوف على مالية الدولة من الإنهيار.

 

أمّا من ناحية ميزان المدفوعات فقد سجّل عجّزاً تراكمياً بقيمة 1,93 مليار دولار أميركي في الشهرين الأوّلين من العام 2019. هذه البداية السيّئة لميزان المدفوعات هذا العام لم تتمّ مُعالجتها في مشروع الموازنة المطروح والذي كان من المفروض أن يحوي إعادة فرض رسوم جمركية على البضائع المُستوردة من الخارج (خصوصاً من أوروبا والدول العربية) والتي لها مثيل في لبنان.

 

ميزان المدّفوعات هو نتاج أداء الدولة، القطاع الخاص والمواطن. الدولة أساءت الأداء من ناحية تخلّيها عن سياستها الاقتصادية لصالح القطاع الخاص الذي أخطأ في خياراته الإستثمارية وبالتالي دفع بالمواطن اللبناني إلى تفضيل كل ما هو أجنبي على البضائع اللبنانية. في الواقع، يبقى المواطن اللبناني المسؤول الأول لأنه من خلال سلوكه الإستهلاكي يستفحل في شراء البضائع الأجنبية وبالتالي يزيد من عجز الميزان التجاري. المواطن اللبناني يستورد بضائع بقيمة 20 مليار دولار أميركي سنوياً. إنه إنتحار!!

 

لذا ونتيجة أرقام ميزان المدفوعات سيعمد مصرف لبنان في الأشهر المقبلة إلى تقييم الوضع وبالتالي قدّ يعمد بحسب تقييمه للوضع إلى إجراء هندسة مالية جديدة لا يعرف تفاصيلها إلى مُهندسها رياض سلامة.

 

في هذه الوقت يعتمد مصرف لبنان سياسة نقدية مبنية على أدوات تقليدية وأدوات إحترازية تسمح له بالمحافظة على الليرة حتى مع عجز الموازنة وعجز في ميزان المدّفوعات. أضف إلى ذلك أنّ رياض سلامة يعتمد في إدارته للوضع النقدي على آلية دينامية مُعقدّة (Market Dynamic Behavior) تسمح له باستباق أيّ سلوك للاعبين الإقتصاديين في الأسواق. وللتأكّد من هذا الأمر يكفي النظر إلى البيانات التاريخية لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي حيث نُلاحظ أنّ مصرف لبنان قام بعدد من الخطوات التي لجمت تغيّرات سعر الصرف ضمن هامش أقلّ من الهامش الرسمي (أنظر إلى الرسم البياني).

 

العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الاقتصاد! إنها تُجسّد بُعداً من أبعاد الهوية الوطنية. فحبّذا لو أنّ اللبناني يتمسّك بعملته لتبقى شامخة كما شموخ الأرز.