عنصران جديدان أدخلهما السيّد حسن نصرالله، في إطلالاته الأخيرة، على أدبيّات «حزب الله» التي ظهّرَت حقيقة دور الحزب، كما نظرته للدوَل والكيانات في المنطقة، في عودةٍ غير مباشرة إلى ما يسمّى المؤامرة الغربية واليهودية التي فرطعَت أرضَ الإسلام من خلال سايكس-بيكو.
ليس تفصيلاً أن يؤكّد السيّد نصرالله في إطلالتين متتاليتين على معطيَين جديدين:
المعطى الأوّل، تأكيده «أنّ ضرب أيّ هدف في سوريا هو استهداف لكلّ محور المقاومة». وقوله «لم يقدِّم أحد التزاماً بأنّ الاعتداءات على سوريا قد تبقى من دون ردّ، وهذا حقّ محور المقاومة وليس حقّ سوريا فقط. ومتى يمارَس هذا الحق يكون خاضعاً للمعايير التي تؤخذ بعين الاعتبار في اتّخاذ القرار».
المعطى الثاني، قوله: «لم نعُد نعترف بتفكيك الساحات والميادين»، وتشديدُه: «من حقّنا أن نواجه في أيّ مكان وأيّ زمان وكيفما كان».
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسَه انطلاقاً ممّا تقدَّم: هل كان السيّد نصرالله مضطرّاً إلى الإعلان عمّا أعلنَه، خصوصاً أنّ كلامه يعني إسقاطاً للحدود والكيانات وسيادة الدوَل، وتقاطعاً مع «داعش» التي كانت أعلنَت إمارتها وإسقاطها للحدود بين العراق وسوريا؟ وهل هذا الكلام جاء ردّاً على «داعش» أم استباقاً لتطوّراتٍ يسعى «حزب الله» منذ الآن إلى حجزِ موقعِه داخلها؟
وهل يعتقد أنّ سايكس-بيكو انتهى ويريد أن يكون شريكاً في ترسيم الحدود الجديدة؟ ولماذا التلويح بالردّ من أينما كان، فيما بإمكانه الردّ من دون أن يعلنَ عن هذا التحوّل في استراتيجيته المعلنة، وذلك على غرار قتاله في سوريا، حيث لم يكن مضطرّاً إلى إعلان أهدافه بهذا الوضوح، إلّا في حالة واحدة وهي التمهيد لأمر معيّن؟
وفي هذا السياق يمكن الجزم أنّ «حزب الله» ما قبلَ القتال في سوريا شيء، وما بعده شيء آخر تماماً، والمقصود طبعاً في الاستراتيجية المُعلنة للحزب لا المُضمَرة، حيث كان يجهد، قبل انخراطه في الوحل السوري، من أجل تأكيد لبنانيته ودفاعه عن السيادة اللبنانية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، وأنّ كلّ هدفه إقامة توازن رعب مع إسرائيل من خلال الاستراتيجية الدفاعية.
ولكن مع اندلاع الأزمة السورية انتقلَ بعدّته وعَديدِه للقتال دفاعاً عن النظام السوري، وعلى رغم محاولاته تغطية هذه الخطوة بعناوين مختلفة، بدأت من حماية المزارات الدينية إلى حماية جونية وصيدا، وما بينهما الدفاع عن نظام حليف، إلّا أنّها كانت في العمق تؤشّر إلى حقيقة توجُّهِه المتمثّل بعدم الاعتراف بنهائية الحدود والكيانات.
فأن يعطيَ «حزب الله» لنفسه الحقّ بأن يقاتل أينما كان دفاعاً عن قضيته، فيعني أنّه أصبح حزباً عابراً للدوَل والحدود، الأمرُ الذي يعني بالمقابل أنّه أصبح لزاماً بعد مواقف نصرالله الأخيرة التعامل مع الحزب بكونه يخالف الدستور، ليس فقط من خلال احتفاظه بسلاح غير شرعي، بل بعدم إقراره بنهائية الكيان اللبناني الذي يفرض عليه اعتماد أجندة لبنانية لا إقليمية، والأسوأ أنّه يجاهر بذلك، ليس فقط أيضاً من خلفية أيديولوجية، بل من خلال ممارسة عملية بذهابه إلى سوريا أوّلاً، وتبرّعِه بالرد على إسرائيل نيابةً عن أيّ مكوّن ممانع أو دولة ممانعة ثانياً، وإعلانه جهاراً عدمَ الاعتراف من الآن وصاعداً بالحدود ونهائيتها.
وقد لا يشكّل ما تقدّمَ جديداً باستثناء أنّ «حزب الله» قرّر على طريقته الإعلانَ عن حقيقة أهدافه ومشروعه المتناقض جذرياً مع لبنان أوّلاً، ومع المساعي التي تولّاها النائب وليد جنبلاط في منتصف العام 2005 مع عواصم القرار من أجل إقناعها بالاكتفاء ببندِ خروج الجيش السوري من القرار 1559 وتركِ البند المتصل بسلاح «حزب الله» إلى حوار لبناني-لبناني أظهرَت السنوات عقمَه وفشله.
وإذا كانت المشكلة مع الحزب تكمن في رفضِه تسليمَ سلاحه للدولة اللبنانية التي لا يمكن أن تنهض في ظلّ وجود جيشين وسلاحين، فإنّ المشكلة مع انخراطه في القتال السوري وإعطاء نفسه حقّ الدفاع عن محور الممانعة تضاعفَت وخرجَت عن قدرة اللبنانيين في حلّها ومعالجتها. فالحزب الذي لا يميّز بين فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين وإيران، لا يمكن التعاطي معه وكأنّه حيثية لبنانية فقط، لأنّ لبنان في حساباته لا يختلف عن سائر الدول التي تشكّل مجتمعةً محور الممانعة.
ويبقى أنّ خطورة ما تقدّمَ أنّ حلّ معضلة سلاح «حزب الله» خرجَت من يد اللبنانيين، وأنّ حَلّها أصبح معقوداً على هِمّة المجتمع الدولي في مفاوضاته مع طهران، ولكنّ المعضلة الأخرى التي لا تقلّ خطورةً هي أنّ هذه الهمّة التي يراهن فيها اللبنانيون على المجتمع الدولي غير موجودة، فضلاً عن كونها معطوفةً على استقالة تامّة للّبنانيين من دورهم الوطني.