مخيف السقوط اللبناني. مخيف اكثر السقوط المسيحي الذي تكشفه تصرفات كلّ من له علاقة من قريب او بعيد بـ»التيّار الوطني الحر» الذي يتبيّن كلّ يوم انّه لا يمتلك سوى مشروع واحد اسمه الوصول الى رئاسة الجمهورية بايّ ثمن كان وايّ وسيلة كانت.
لا يعبّر عن الرحلة الطويلة للسقوط المسيحي في لبنان الذي بلغ ذروته في السنة 2020 في ظلّ «حكومة حزب الله» في «عهد حزب الله»، غير ذلك المشهد الذي كنت شاهدا عليه في العام 2005.
كان المشهد حزينا يوم الثاني عشر من حزيران من تلك السنة، اليوم الذي اجريت فيه المرحلة الثالثة من الانتخابات النيابية في محافظة جبل لبنان. في المساء، بعد اقفال صناديق الاقتراع، كان نسيب لحّود الذي خاض الانتخابات في قضاء المتن ينتظر ظهور النتائج في مكتبه في سنّ الفيل.
سقط نسيب لحّود وفاز مكانه اشخاص مثل نبيل نقولا وإبراهيم كنعان المرشحين على لائحة «العونيين».
كلّ ما حصل بعد ذلك، وصولا الى ما وصل اليه البلد من افلاس، يعبّر عنه شخص مثل جبران باسيل، امر اكثر من طبيعي. تخلّى اللبنانيون والمسيحيون على وجه التحديد عن افضل ما عندهم من شخصيات وكفاءات وساروا خلف غرائزهم وخلف مغامرة غير محسوبة النتائج. انّهم يدفعون حاليا ثمن تحوّلهم الى اسرى للغرائز البدائية التي تجعل الهاوية خيارا حتميا في غياب أي منطق من ايّ نوع كان يمكن ان يقودهم الى شاطئ الأمان في بلد اسمه لبنان.
كانت في لبنان في كلّ وقت شخصيات مسيحية تستطيع ان تشكّل مرجعية وان تفرض لغة المنطق والعقل والعلم والثقافة السياسية بعيدا عن لغة الغرائز والمغامرات. كان نسيب لحّود الذي توفّى قبل ثماني سنوات احدى تلك الشخصيات، بل يمكن اعتباره بين آخر الشخصيات المسيحية التي تمتلك مؤهلات ترفع من شأن رئاسة الجمهورية وتضع هذا الموقع فوق الحسابات الصغيرة وفوق أي صفقات.
لم يكن سقوط نسيب لحّود، في انتخابات 2005 مجرّد حدث عادي بمقدار ما كان دليلا على دخول أكثرية المسيحيين في لبنان في حالة ميؤوس منها اوصلتهم الى الاعتقاد انّ في استطاعتهم استعادة، ما يعتبرونه، حقوقهم المسلوبة في اتفاق الطائف بفضل سلاح «حزب الله»!
بعد انتخابات 2005 التي قادت الى توقيع اتفاق وثيقة مار مخايل بين ميشال عون وحسن نصرالله، الأمين العام لـ»حزب الله»، في شباط 2006، صار الزعماء المسيحيون الذين يمتلكون حدّا ادنى من المنطق عملة نادرة.
في الطريق الى وصول لبنان الى الإفلاس، ازيح البطريرك صفير في العام 2011. سيكتب التاريخ يوما الظروف التي رافقت إزاحة بطريرك الاستقلال وحلول المطران بشارة الراعي مكانه. لم يستفق الراعي على «الحياد» وعلى ما هو اهمّ من ذلك، على «فكّ اسر الشرعية» وتطبيق القرارات الدولية مثل 1559 و 1680 و 1701، الّا في السنة 2020. لا شكّ ان موقفه يبدو سليما الى حد كبير. إنّه أيضا تعبير عن رغبة دولية في انقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان بمسلميه ومسيحييه. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة، الم يأت هذا الطرح متأخّرا، وهو تأخّر تعبّر عنه تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الذي غادر البلد يائسا؟
عندما لعب الرئيس كميل شمعون في السنوات الأخيرة من عهده الذي استمرّ بين 1952و 1958 لعبة الخروج عن الحياد، واجهه باكرا البطريرك المعوشي الذي كان يعرف المعادلة الإقليمية معرفة جيّدة. ما انجزه عهد كميل شمعون كان ذا طابع استثنائي، خصوصا في ما يتعلّق بالاعمار، لكنّ خروجه عن الحياد أوقع البلد في مأزق لعب رجل تاريخي مثل البطريرك المعوشي ثم الرئيس فؤاد شهاب دورا في إخراجه منه. هذا لا يعني انّ الزعماء المسلمين، خصوصا السنّة، لا يتحملون جزءا من مسؤولية احداث 1958 بعدما تأثروا بالتيار الناصري، لكنّ الحاجة كانت الى تعقّل مسيحي. وهو تعقل افتقده كميل شمعون في تلك المرحلة.
لا يزال التعقّل المسيحي ضرورة حيوية للبنان، لكنّ اللافت انّها المرّة الأولى في تاريخ البلد الذي لا وجود لحدود للجهل بالنسبة الى ما يدور في البلد وفي المنطقة والعالم على اعلى المستويات. ما يؤكد ذلك الغياب الكامل لأي نوع من الرغبة في ممارسة التواضع والتعلّم من الذين يعرفون ولو القليل عن البلد والمنطقة والعالم وكيف يعمل صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال.
ما نشهده اليوم هو السقوط الكامل للبنان وللمسيحيين خصوصا. بدأ هذا السقوط مع توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969، لكنّه اخذ بعدا آخر بعد 2005 حين تبيّن انّ الطبقة دون الوسطى المسيحية، أي أكثرية المسيحيين، لا تمتلك ايّ رؤية من ايّ نوع. لا وجود لمن يعي البديهيات، بما في ذلك معنى السير في ركاب «حزب الله» وما هي طبيعة «حزب الله» وما هو مشروعه الإقليمي… وما الذي سيترتب على تدخله في الحرب على الشعب السوري وتحويله لبنان قاعدة لنشاط إيراني معاد لدول الخليج العربي؟
ما يعيشه لبنان اليوم نتيجة مباشرة لهذا السقوط المسيحي الذي تختزله رؤية ميشال عون في قصر بعبدا ونسيب لحّود في القبر. هل من مشهد محزن اكثر من هذا المشهد ومن نهاية أسوأ من هذه النهاية للبنان حيث حسّان دياب الذي في موقع رئيس مجلس الوزراء يسأل: اين الأجهزة الأمنية وأين القضاء؟ فوق ذلك كلّه يريد السيّد دياب مساعدات من دون إصلاحات. انّها «حكومة حزب الله» في «عهد حزب الله». حكومة وعهد يجمع بينهما الجهل من جهة ورفض العاطي مع واقع انّ «حزب الله» وضع يده على البلد من جهة أخرى.