أنجَز مجلس النّواب أمس مهماته بعد مرور 46 جلسة، وصار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. بنصاب مُكتمل وحضور عربي ودولي، حقّق «الجنرال» حُلمه المزمن منذ التسعينيات، في جلسة لم تخلُ من المفاجآت والخفة واللعب من تحت الطاولة، لكنّها انتهت بنتيجة مرضية بعد 26 سنة من الكِفاح السياسي
… وصارَ ميشال عون رئيساً. حقّق حلُماً مزمناً له ولأنصاره. يوم كبير لن يستطيع أي نسيان التغلّب عليه. يومٌ تأخّر 26 عاماً، وفتح الباب باتجاه عهدٍ ينطوي على ألف علامة استفهام.
إلى أن انعقدت جلسة الانتخاب أمس، بقي «الكارهون» مصرين على أن وصول «الجنرال» إلى بعبدا ضرب من ضروب الخيال. فقط، حقيقتان ثابتتان كان يُمكن مُلامستهما داخل القاعة العامة للبرلمان: «المُراد» الرئاسي أصبح في متناول اليد، هذا أولاً. وثانياً، أن ثمّة من «استكتر» على العماد عون سلوك طريق قصر الشعب من دون صعوبات، ولو في الدقائق الأخيرة ، فأبى إلا أن يمنَح رئيس تكتّل التغيير والإصلاح لقب الفخامة «بالقطّارة»!
لعلّه لا مبالغة في القول إن جلسة أمس بساعاتها، كادت تكون الأطول والأثقل في حياة عون ونوابه وعائلته. لو أمعن أحدٌ النظر في ملامح وجوه بنات الجنرال وأقاربه ومحبيه الذين تجمعوا على الجانب الأيمن من مقاعد المدعوين، لأدرك أنهم وحدَهم من عاشوا اللحظة بصدق. لم يزيحوا ببصرهم ثانية واحدة عن الأب والقائد، وكأن لا وجود لغير عون في القاعة. أما الأحفاد، فلازموا مقاعدهم إلى جانب أمهاتهم. ابتسامات تعلو وجوههم، يقطعها توتّر عابر، وعيونهم لا تفارق محيّا جدّهم.
قبل نصف ساعة من موعد الجلسة المحدّد عند منتصف النهار، كان نصف النواب قد وصل إلى قاعة الهيئة العامة. أول الحاضرين نواب كتلة «التنمية والتحرير»، وآخرهم نواب «الوفاء للمقاومة»، على الأرجح بعدما أدّوا صلاتي الظهر والعصر. شخصيات عسكرية وسياسية وديبلوماسية ورؤساء سابقون، ضاقت المساحة المخصصة للمدعوين بهم، حتى اضطر عدد لا بأس به منهم إلى الجلوس على الدرج، لمتابعة الحدث. لحظات وبدأت العملية الديموقراطية. صندوق زجاجي للاقتراع، 127 ورقة، مرشح معلن وآخر مستتر بالأوراق البيضاء، مطرقة ورئيس مجلس نواب ومن ثم قسَم. كان يفترض بلعبة التصويت ألا تتعدى نصف ساعة. فكل شيء متفق عليه، والمشهد مرسوم قبل النزول إلى ساحة النجمة، والنتائج محسومة سلفاً وكذلك «البوانتاج» العوني. غير أن «جنون» اللحظات الأخيرة غيّر مسار الجلسة لتكون فكاهية في آن، واستفزازية في آن آخر. كثيرة كانت الخروقات التي سُجّلت داخل الجلسة، كاشفة عن مدى استهتار بعض نواب الأمة بحساسية اللحظة. يبدو الأمر طبيعياً مع نواب لا يوجد من يوقفهم ولا يُحاسبهم سابقاً عن تغيّبهم وتسيّبهم، وتقاضيهم رواتب من دون كدّ وعناء مقابل عدم الحضور! فالمشاهد الكوميدية التي رافقت الجلسة، أكدت أن من حسنات خفة بعض أصحاب السعادة أنهم لا يستطيعون إخفاء سيئاتهم طويلاً. حتى في حضور الشخصيات العربية والدولية، وتحت أضواء الكاميرات والهواتف الذكية والنقل المباشر التي حوّلت جلسة الانتخاب إلى فيلم يُعرض على الملأ.
وسط كل هذه الأجواء، لم يلتفت الكثير من أعضاء المجلس إلى دورهم الحقيقي، ولا مكانة الكراسي التي يجلسون عليها، بصفتهم ممثلي الأمة، ولم يستشعروا ضخامة التحديات في لحظة فارقة من عمر البلاد، غير آبهين فيما لو وُصف أداء بعضهم بـ«المسخرة».
المؤكد أن هذه الممارسات لم تكُن عابرة، بل حصلت عن سابق إصرار وترصّد، تحديداً حين بلغ عدد الأصوات 128 بدلاً من 127، ليتبين أن أحد النواب قرر الاقتراع بظرفين بدلاً من واحد. الأكيد أن الظرف الثاني لم يسقط سهواً، خصوصاً أن الأمر تكرر مرتين. هناك من أراد أن «يلعب بأعصاب» الجنرال عون. وهناك من لم يرد له أن يهنأ في الجلسة، ولا أن يعطى له اللقب بالسرعة المتوقعة. لا بأس بساعة إضافية من «الكيدية» تضاف إلى 26 عاماً من الصعوبات التي تحمّلها الرجل، علّها تحني ظهره. إلا أن عون كان على عكس ما توقعه «مستفزوه»: أكثر هدوءاً وطمأنينة وتماسكاً من كل نواب تكتله. كما كان على عكس الديبلوماسيين الذين بدا الاستياء واضحاً على وجوههم مستغربين تعاطي النواب بخفّة مع المناسبة، ما دفع الرئيس برّي إلى التوجه إليهم بالقول: «لبنان بأسره يتابعنا، وهناك هيئات ديبلوماسية موجودة معنا داخل القاعة. وما حصل ليس مدعاة للفخر، يا عيب الشوم».
لم يُنتخب عون من الدورة الأولى كما كان متوقعاً. حصل على 84 صوتاً، مقابل 36 ورقة بيضاء وألغيت 6 أوراق، خمس منها كتب عليها «ثورة الأرز مستمرة من أجل لبنان» تعود إلى نواب كتلة الكتائب. فدعا الرئيس برّي إلى دورة ثانية. من جديد دار الصندوق على النواب، وبعد انتهاء التصويت، تبيّن أن في داخله 128 مغلّفاً بدلاً من 127. اقترح بري أن يجري الفرز، وإذا ما كان الفرق صوتاً واحداً يبحث الأمر، فاعترض النائب سامي الجميّل، ما دفع رئيس المجلس إلى إعادة الدورة، لتعاد الكرّة ويتبّين أيضاً أن في الصندوق 128 مغلفاً. أغضب الأمر الرئيس برّي، وفيما اعتبر أن هناك «شيطنة» يمارسها أحد الأطراف، اقترح أن يوضع الصندوق في وسط القاعة العامة، على أن يخضع لمراقبة النائبين أنطوان زهرا ومروان حمادة اللذين أطلق عليهما صفة حرّاس الهيكل. في الجولة الرابعة لم تختلف النتيجة كثيراً. حصل عون على 83 صوتاً، مقابل، 36 ورقة بيضاء، وصوت للنائبة ستريدا جعجع، وست أوراق ملغاة. وفور تخطي عدد الأصوات 65 لمصلحة عون، علا تصفيق نواب التيار الوطني الحرّ. وبين الجولات الأربع بدأت الخلوات الثنائية والثلاثية تظهر، وبدأت التكهنات حول من هم النواب الذين تراجعوا عن دعم عون. تيار «المستقبل» يؤكّد أن هناك خمسة نواب لم يصوتوا للجنرال، هم فؤاد السنيورة، أحمد فتفت، عمار حوري، محمد قباني وسمير الجسر، فيما التزمت بقية الكتلة خيارَ الرئيس سعد الحريري. ورجّح البعض أن أحد نواب كتلة النائب وليد جنبلاط بدّل رأيه في اللحظة الأخيرة تحديداً المرشح السابق هنري حلو، وكذلك نواب «البعث» و «القومي».
ربما كانت الإيجابية الوحيدة بعد وصول عون إلى سدّة الرئاسة، كما ظهر في الجلسة، هي عودة الكيمياء الشخصية بين نواب التيار الوطني الحرّ والمستقبل ووزرائهما. اختفت فجأة ترسبات الماضي، مع التحضير لعهد المساكنة. حتى أن فيهم من تصرف مع زميله وكأنه شخص واحد. على سبيل المثال، وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي جاور زميله في الحكومة الياس بو صعب، طلب منه تسجيل اسم العماد عون على الورقة البيضاء، ليتولّى هو في ما بعد إسقاطها في الصندوق!