طرَح كلامُ الرئيس المكلف سعد الحريري في لندن عن بلوغ المساعي المبذولة لتأليف الحكومة «المئة متر الأخيرة» أكثر من علامة استفهام وتعجّب، إذ لم يشاركه فيه أيُّ مرجع معنيّ بالعملية، لا بل فقد وضع البعض منهم في موقع المتلهّف للإستماع الى أيِّ جديد. فكلّ الأجواء التي خيّمت على مشاورات رئيس الجمهورية تنحو الى مزيد من التعقيد. فهل تكون «أطول مئة متر» في تاريخ «الماراتون» الحكومي؟
يعتقد مرجع كبير أنه لم يعد هناك سرّ في لبنان يمكن الإحتفاظ به. فقد تلاحقت المبادرات التي هدفت الى تأليف الحكومة وقد بلغ التكليف شهره السابع من دون أن يتمكّن أيُّ مسؤول سواء كان معنياً مباشرة بالعملية أو أنه لعب دور الوسيط، أن يحمي واحداً من السيناريوهات التي رسمت للحكومة لأكثر من أيام قليلة سواءٌ لجهة عدد أعضائها أو حجم الحصص المقترحة وطريقة توزيع الحقائب التي صُنِّفت بين سيادية وخدماتية وعادية.
ولذلك لا يستطيع أحد من هؤلاء أن يخفي الظروف التي أدّت الى تهاوي هذه المبادرات واحدة بعد أخرى. وفي الوقت الذي انتهت بعض الأفكار والمشاريع قبل أن تولد بقي بعضُها مطروحاً لفترة من دون أن تصمد نظراً الى ما فيها من أمان ورغبات ليس من السهل تحقيقها في الظروف الداخلية والإقليمية التي تعيشها البلاد. إضافة الى ذلك لا يمكن أحد أن يتنكّر للمشاريع المتناقضة التي تحاكي ما يريده البعض من هذه الحكومة على المديَين القريب والبعيد والتي كانت سبب عدم التلاقي على تركيبة تحظى بموافقة الساعين الى دخول «الجنّة الحكومية».
وبمعزل عن مجمل السيناريوهات السابقة، فقد رفعت مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة منسوبَ التفاؤل على رغم أنّ أحداً لم يتلمّس حتى الآن أيَّ تعديل في المواقف الأساسية التي «كربجت» التأليف في 29 تشرين الأول الماضي، إذ كان الحديث قبل يومين من ذلك التاريخ بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس المكلف يتناول عناوين البيان الوزراي في انتظار أن يسمّي «حزب الله» وزراءه فلم تأتِ الأسماء ولم يبدأ البحث في عناوين البيان الوزاري، وتلاشت كل الآمال باحتمال تأليفها في وقت قريب.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تسجّل الإتصالات أيَّ تقدّم. فالمبادرة التي قام بها وزير الخارجية جبران باسيل انتهت الى مزيد من التعقيدات على اكثر من مستوى، خصوصاً عندما تناولت إمكان تغيير قواعد التأليف المعتمَدة في الصيغة الثلاثينية وإمكان تطبيقها في صيغة الإثنين وثلاثين وزيراً وفقدت كل المخارج المحتملة لتمثيل «نواب سنّة 8 آذار»، لا سيما أنّ البعض إعتبرها استثماراً في المشكلة بغية تكبير أحجام البعض بدلاً من حلّ هذه العقدة ولم يكن في أوانه لا شكلاً ولا مضموناً.
والى جانب هذه الصيغة تناولت المفاوضات صيغاً أخرى وتردّدت تشكيلات من 14 أو 16 أو 24 وزيراً فسقطت بـ»الضربة القاضية» التي سدّدها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وزاد من قوة موقفه أنه كان منسّقاً مع «حزب الله» وحلفائهما نتيجة تمسّكهم بالثلاثينية منها كصيغة لم يعد يمكن تشكيلّ أيّ حكومة خارج ما تقول به من المعادلات والحصص منذ الطائف الى اليوم.
وعليه وعلى رغم إمكان وضوح الصورة في الساعات المقبلة التي ستلي عودة الحريري الى بيروت، لم ترَ أيُّ مرجعية في كلامه عن «المئة متر الأخيرة» سوى تأكيد نظريته السابقة التي شرحها في أكثر من مناسبة. فبالنسبة اليه فإنّ التشكيلة الحكومية جاهزة ويمكن الإعلان عنها وإصدار مراسيمها فور تسلّمه اسماء وزراء «حزب الله» الثلاثة وأنّ الحديث عن أيّ تشكيلات أخرى لم يقنعه البتة. فهو على موقفه من كل ما أعاق هذه الصيغة وأنّ ما تلى تلك المرحلة ليس في وارد الإعتراف أو التسليم به.
وزاد في الطين بلة، ما عبّرت عنه مجموعة «نواب سنّة 8 آذار» من أن ليست لدى رئيس الجمهورية أيّ مبادرة يمكن مقاربتها طالما أنه لم يقنع بعد الرئيس المكلف باستقبالهم أو الإعتراف بوجودهم وحجمهم التمثيلي وحصتهم في الحكومة المقبلة، فكان ما كان من تصعيد عبّر عنه البعض بطريقة وُصفت بأنها «غير عادية»ـ لئلّا يعتمد أيَّ توصيف آخر أكثر قساوة – في لقائهم مع رئيس الجمهورية في نهاية مسلسل لقاءاته المعلنة منذ إطلاقه مبادرته الأخيرة.
وعليه، وأيّاً كانت المعطيات التي يمكن أن يعود بها الحريري من لندن، فإنّ الحديث عن بلوغ التاليف مراحله الأخيرة لربما كان رسالة تطمين أراد توجيهها من منبر «منتدى الأعمال والاستثمار اللبناني ـ البريطاني» في لندن. ومن دواعي مخاطبة المجتمع الدولي بأن لا يفقد الأمل في تجاوب لبنان مع مستلزمات الملتقى عينه وكذلك مع مقتضيات مؤتمر «سيدر». وهو الذي طمأنهم في المناسبة نفسها الى إمكان أن تلبّيها حكومة تصريف الأعمال بالتعاون مع المجلس النيابي في حال لم تؤلّف الحكومة الجديدة. وكان ذلك واضحاً في إشارته الى جلسات «تشريع الضرورة» وما أنتجته من قوانين يمكن أن تحمي ما خُصّص للبنان من هذا المؤتمر أو أيّ منتدى أو دولة أو حكومة أو مؤسسة مانحة.
وبناءً على ما تقدّم، وما لم تحصل أيّ مفاجأة إيجابية غير محتسبة من الآن فإنّ المئة متر التي تحدّث عنها الحريري قد تكون «أطول مئة متر في تاريخ الماراتون الحكومي».. ومن يعش يرَ.