IMLebanon

ليمونة البستان… الضمير.. والبلد المنهوب

 

أن تسرق ليمونة من غير ذي وجه حق فتلك مصيبة، وان تقطف تلك الثمرة الطيبة الشهية عن غصن أمها من دون استئذان من ناطور البستان أو صاحبه على الأقل، فالمصيبة أعظم… أما أن تسرق وتنهب بلداً بأمه وأبيه وخيراته وثرواته وأمواله وجنى عمر أبنائه الطيبين فإنها كارثة كبرى وذنب لا يغتفر من دون جدل أو جدال.

 

وبما انه قد عادت بي الذاكرة إلى حكاية تلك الليمونة التي تآمرت عليها بشغف حيث كنت بسن الطفولة بالتعاون والتنسيق والتخطيط، طبعاً مع شلة من رفاق الدرب إلى المدرسة، وكانوا مثلي في حينه بعمر الطفولة أيضاً، وهذا ما جعلني أكثر اصراراً على سرد الحكاية بتفاصيلها الدقيقة، لا لشيء، الا للمقارنة ما بين خطورة ما أقترفته يدي عندما امتدت الى تلك الاغصان المتدلية من شجرات الليمون لقطف ليمونة أو ليمونتين من على تلك الاغصان على مدى خمسة أيام في الطريق إلى المدرسة.

 

وهنا طرحت السؤال وسألت نفسي، كيف ولماذا عادت بي الذاكرة إلى الوراء وإلى تلك الحقبة الطويلة من الزمن مما جعل مخيلتي وذاكرتي تعودان بي إلى تلك الأيام بعيداً بعيداً، ولم يتأخر الجواب عن سؤالي هذا ويتلخص بالتالي، انه لا بدّ ان يحاسب المرء نفسه على أخطائه صغيرة كانت أم كبيرة كي يصحح الخطأ ولو ارتكب بعفوية وعن غير إدراك لا سيما اننا كأطفال كنا في حينه لا ندرك ولا نميز بين الخطأ والصواب وبين الحلال والحرام.

 

لكن الهدف من سرد قصة تلك الليمونة يكمن بالاضاءة عمّا جرى ويجري في لبنان ماضياً وحاضراً وتحسباً لاستمراره في المستقبل، من خلال نهب البلد وسرقته وتدميره مادياً ومعنوياً واقتصادياً بكل ما للكلمة من معنى من قبل شلة من المسؤولين والحكام والسياسيين الفاسدين الذين يتحكمون بمصير البلاد والعباد منذ سنوات وسنوات، يصولون ويجولون في غيّهم وفسادهم وسرقاتهم ونهبهم واختلاساتهم وصفقاتهم وسمسراتهم دون رقيب أو حسيب، يُشار اليهم بالبنان متلبسين بوقائع جرائمهم بالجرم المشهود من خلال الوثائق والأدلة القاطعة، وقد فاحت منهم رائحة الفساد وانتشرت في كل مكان يتواجدون فيه، وقد اقترفوا ما اقترفوا ونهبوا ما نهبوا وسرقوا ما سرقوا من خيرات هذا البلد وثرواته من أموال اللبنانيين الطيبين الذين أودعوا مدخراتهم وجنى العمر في المصارف اللبنانية والتي كانوا قد جمعوها بتعب وجهد وعرق الجبين، حيث كانوا يظنون ان ودائعهم تلك ستكون ذخيرة حية بالنسبة لهم يلجأون  إليها في آخرتهم وسن تقاعدهم وشيخوختهم فإذ بهم يفاجأون انها قد احتجزت أو تبخرت بين ليلة وضحاها، أو تمّ تحويلها إلى خارج لبنان لايداعها في حسابات أولئك المسؤولين والسياسيين والكبار من أشباه الرجال في وطن الأرز لبنان وفي حسابات أسرهم وعائلاتهم وزوجاتهم وأولادهم والأحفاد.

 

بالعودة إلى حكاية تلك الليمونة لا بدّ من الاضاءة على تفاصيل تلك الحكاية..

 

كنا أطفالاً تتراوح أعمارنا بين السابعة والثامنة من العمر آنذاك.، وكنا ننتقل كل صباح الى مدرستنا الكائنة في منطقة تحويطة الغدير ببرج البراجنة، حيث نستقل «أوتوكار المدرسة» وان أنسى فلن أنسى سائق ذلك الباص، الرجل الطيب، العم عبدو، كما كنا نناديه، وقد أصبح في دنيا الحق – رحمه الله – وكان العم عبدو يتميّز يحرصه الشديد على مراقبتنا والمحافظة علينا كأطفال يتولى نقلنا من بيوتنا الى المدرسة وبالعكس، والتي كانت ترأسها وتديرها صاحبتها «مسز نور» التي أصبحت هي أيضاً في دنيا الحق، وهي بدورها كانت قاسية وصارمة جداً في تربية الأطفال، وعدم التسامح أو التساهل معهم على الإطلاق إذا ما ارتكبوا أي خطأ، أو خالف أحدهم قوانين المدرسة المرعية الاجراء، وهذا الأمر كان يطبق بحذافيره على الجميع من دون استثناء.

 

كانت الطريق التي يسلكها العم عبدو الى المدرسة يوماً تمر بمنطقة جميلة تفوح منها رائحة زهر الليمون، وهي أشبه برائحة العطر من دون مبالغة، وكنا نرى بأم العين أغصاناً تتدلى منها أعداد كبيرة من حبات الليمون التي تحاكي بلونها الجميل المميز الطبيعة الغناء وذاك البستان الكبير، والتي كانت تشع بلونها سحراً وجمالاً، وبما ان تلك الطريق المؤدية إلى المدرسة كانت ضيقة جداً ولا تتسع لمرور أكثر من سيّارة واحدة، ولدى الوصول إلى مفترق تلك الطريق كان العم عبدو يُطلق عنان «زمور» الباص، ويُخفّف سرعته تحسباً من الالتقاء بسيارة أخرى من الوجهة المعاكسة منعاً  للرجوع بعيداً لكل منهما وافساحاً  للمرور لكليهما معاً.

 

وهنا بيت القصيد، فعندما كنا نسمع «زمور» باص العم عبدو ندرك انه سيخفف سرعته عند مفترق ذاك الكوع، وفي تلك اللحظات بالذات كنا نتأهب ونستعد ونستنفر استعداداً لمد أيدينا من شباك الباص لقطف أول ليمونة تلوح أمامنا وتظهر علينا، دون أن نمكن العم عبدو أو من يكون إلى جانبه، المسز نور مثلاً، التي كانت ترافقنا في الكثير من الأحيان من منزلها الكائن في وسط الطريق إلى المدرسة، أو من قبل أي معلمة أخرى تتولى مهمة مراقبة ورعاية الأولاد في الباص أيضاً.

 

وفي غفلة عنهم وبسرعة البرق نحقق مبتغانا بقطف الليمونة تلك، وعلى ما اذكر، اننا كنا نشعر كأطفال بسعادة ما بعدها سعادة عندما ننجح في خطوتنا هذه وكأننا قد عثرنا على كنز ثمين، وهناك كان لا بدّ من ان نخبئ تلك «الغنيمة» في حقيبة المدرسة استعداداً للقضاء عليها وأكلها والتلذذ بطعمها قبل صعودنا إلى الصف في ملعب المدرسة، بعد ان ننزع عنها قشرتها الخارجية بأيدنا أو بما تيسر لنا من أدوات لذلك.

 

وقد بقينا على هذه الحال حتى تركنا تلك المدرسة التي امضينا فيها سنوات من طفولتنا الشيقة والشقية في آن معاً، وها نحن اليوم نستذكر أيام تلك الليمونة المسروقة لا لشيء الا لنقارن ما بين عفوية وتصرف اطفال مدوا أيديهم إلى ليمونة ليست حقاً لهم، وبين بلد منهوب كلبنان، تمّ نهبه وسرقته من قبل مسؤوليه وسياسييه وحكامه عن سابق تُصوّر وتصميم «وعلى عينك يا تاجر»، والذين كان يفترض بهم ان يكونوا مؤتمنين على مقدرات البلد والدولة والخزينة والمال العام كما على ناسه وخيراته ونظامه ومؤسساته من دون تمييز.

 

ها نحن اليوم، قد قطعنا ما يقارب الستين عاماً على سنوات الطفولة تلك، وإذ بنا نجد لزاماً علينا محاسبة انفسنا واستغفار الله ألف مرّة على ما ارتكبناه من الاستيلاء على ليمونة لم تكن حقاً لنا ودون استئذان ناطور بستانها أو صاحبه، وهذا الأمر بدون شك يوحي بالاطمئنان لصحوة الضمير ولو بعد سنوات طويلة من الزمن.

 

انطلاقاً من كل ما تقدّم خلال هذا السرد المفصل، ماذا عسانا ان نقول لاولئك المتسلطين الفاسدين في لبنان ولكل من تجرأ ومدّ يده على مقدرات البلد وخيراته وثرواته وأكل الأخضر واليابس فيه ونهشه لحماً ورماه عـظماً ولم يحترموا ثقة النّاس التي اولوهم إياها في صناديق الاقتراع يوماً ما، الا انه بالتأكيد سيكون الكلام معهم صعباً وصعباً جداً، لأن الموقف الذي هم فيه الآن قد لا يحسدون عليه خاصة وان الضمير المستتر لديهم والغائب لا بل الراحل إلى اللارجوع قد بان للعيان بوضوح، كما وان اللبنانيين باتوا يتهامسون ويجاهرون ويتسامرون ويتتبعون اخبار السياسيين والمسؤولين والحكام في هذا البلد ويتوجهون إليهم بأعلى الصوت دون خوف أو وجل عبر كل الوسائل المتاحة، ومن على شاشات التلفزة أو اثير الإذاعات وصفحات الجرائد ووكالات الانباء ومواقع التواصل الاجتماعي ومن على المنابر وفي المجالس الخاصة والعامة والصالونات كما في الساحات أيضاً، ولم يترددوا ولو للحظة واحدة بتسميتهم بأسمائهم مع أسماء زوجاتهم وعائلاتهم وابنائهم وبناتهم واحفادهم من ولد إلى ولد. ولكن على كل المسؤولين الفاسدين في لبنان ان يدركوا ان حساب النّاس معهم آتٍ لا محالة، وسيكون قريباً وقريباً جداً وهو عسير بكل ما للكلمة من معنى، مع الإشارة إلى ان حساب الدنيا ليس كحساب السماء والآخرة، الذي يبقى وحده الأبلغ والأفعل، هناك لن يجدوا تدقيقاً جنائياً يطالب بأوراق ثبوتية عن فسادهم وسرقاتهم فإما تختفي بلمح البصر أو تخضع لقوانين واهية تحت حجج وذرائع غير مبررة على الإطلاق. كما وانهم لن يجدوا هناك من يغطي فسادهم لأن من يصدر الاحكام العادلة لن يُميّز بين زيد وعمر الا بقدر احترامه لتعاليم السماء التي لا تحكم الا بالعدل والانصاف.

 

قد لا يختلف اثنان على ضرورة لا بل وجوب اجبار كل المسؤولين والسياسيين لإعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج وبالتالي العمل للافراج عن أموال المودعين في المصارف اللبنانية من أجل إعادة انعاش الاقتصاد اللبناني، وعليهم ان يعلموا جيداً بأن الجوع والعوز والمرض قد أتعب النّاس في لبنان على مختلف فئاتهم واطيافهم ومناطقهم، في حين انهم هم يعيشون على كوكب آخر ولا يشعرون بمآسي مواطنيهم وكأنهم أيضاً لم يدركوا حتى الآن ان البلد قد اوشك على الإفلاس والانهيار، وانهم قد تناسوا أيضاً ان طاقات لبنان الشابة من المثقفين والمبدعين قد هاجرت إلى بلاد الله الواسعة هرباً من فسادهم ولكي لا يتسكعوا يوماً ما على أبواب بيوتهم لطلب فرصة عمل أو وظيفة دون ان يجدوا مبتغاهم والآذان الصاغية لتسمع معاناتهم. إذ ان هؤلاء المسؤولين قد باتوا جسداً من دون روح وإن وجدت تلك الروح فهي من دون ضمير.

 

هنا، لا بدّ من نصيحة لاؤلئك الحكام والمسؤولين والسياسيين الفاسدين في لبنان، ارجعوا إلى طفولتكم علكم تتذكرون ليمونة مسروقة وعلّ وعسى ان يستفيق ويصحو ضميركم ولو بعد سبات عميق وطول غياب، وعندها ربما يغفر لكم اللبنانيون تلك المصائب والذنوب والخطايا التي ارتكبتموها من دون رحمة قبل رحيلكم إلى دنيا الآخرة، وهناك سيكون طبعاً الحساب الأكبر وهو عسير عسير عسير.