هناك لعبة خبيثة يمارسها طاقم المال والسلطة: إلهاء الناس بتسَوّل «المال الصعب» أو حتى المستحيل من الخارج، وبتسَوّل الفُتات من الحقوق على أبواب المصارف. كل ذلك لئلّا يفكِّر أحد في الأموال المنهوبة.
يحتاج لبنان فوراً إلى ما يقارب الـ20 مليار دولار لينطلق منها في عملية البرمجة والهيكلة المالية والمصرفية. فإذا توافَر هذا المبلغ، يمكن للبنان أن يبدأ بنفسه تنفيذ خطة الإنقاذ الاقتصادي والمالي والنقدي، ويسلك الطريق الآمن إلى الازدهار، ولو بعد 3 سنوات أو 5 أو أكثر. فكيف للسلطة أن تؤمّن هذا المبلغ؟
منذ مطلع التسعينات، جرى تقاسم موارد الدولة بين القوى السياسية النافذة بلا ضوابط. وكانت تتمّ الاستعاضة والاستزادة بطلب الدعم العربي والدولي الذي كان متوافراً بسهولة:
الخليجيون كانوا في أوج عطائهم، ومؤتمرات باريس زوّدت لبنان مبالغَ مالية ضخمة، بتغطية دولية، مع أنّ اللبنانيين كانوا يتعهدون دائماً بالإصلاح والشفافية، فيما أموال المساعدات مُستباحة.
كانت القوى الخارجية تحرص على استقرار لبنان لمصالح معينة، بل إنها كانت تقدّم المساعدات «رشاوى» للقوى السياسية الوكيلة لها في السلطة.
بعد انطلاق الحرب في سوريا، عام 2011، بدأ المناخ الإقليمي والدولي يتغيّر. لكنّ المأزق اللبناني الحقيقي بدأ في العام 2016، مع وصول الصراع السعودي – الإيراني والأميركي – الإيراني إلى الذروة، وتشدُّد إدارة الرئيس دونالد ترامب في فرض عقوبات على طهران، وتجفيف مصادر تمويل «حزب الله».
عملياً، «إنقطع رزق» الطاقم السياسي بسبب تعليمات أميركية لسائر الحلفاء العرب والأوروبيين بوقف تمويل الدولة اللبنانية، لأنّ «الحزب» يستفيد من المال عندما يمرّ في النظام المصرفي وشرايين الدولة. وتحت هذا العنوان جرى إسقاط مصارف لبنانية. ويكاد يقتصر الدعم الدولي للمؤسسات، منذ تلك الفترة، على الجيش وقوى الأمن.
منذ مؤتمر «سيدر»، حاول الفرنسيون جاهدين «تبليع» المسؤولين اللبنانيين «بالملعقة» ضرورة أن «ينحنوا» لموجبات الإصلاح والشفافية، لمصلحة لبنان. لكنّ المشكلة تكمن أولاً في جَشع هؤلاء وخوفهم مما سيكشفه الإصلاح من فضائح، وثانياً في خشية «حزب الله» من أن يكون الإصلاح مدخلاً لانتزاع أوراق القوة من يده.
في الصيف، بدأت تظهر معالم الانهيار. وعندما انفجرت انتفاضة 17 تشرين الأول، تبلورت الكارثة ووصل الجميع إلى الخيارات الإجبارية، وهي:
1 – الرضوخ لبرامج المساعدات الدولية، وهي كلها مشروطة اقتصادياً وسياسياً بالتأكيد، وأساسها الاستعانة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
2 – الدخول في عمليات إعادة هيكلة وبرمجة مالية ومصرفية وإدارية وإصلاحات اضطرارية واعتماد معايير رقابية وشفافية صارمة، وتدخل من ضمنها الإجراءات المحتملة في المجال الضرائبي وفي القطاع المصرفي، ومنها «الكابيتال كونترول».
3 – إستخدام موجودات لبنان وثرواته، من الغاز والنفط والذهب، إلى خَصخصة المرافق والقطاعات كالكهرباء والاتصالات وسواها.
لكنّ القوى النافذة ما زالت تراهن على الوقت وتغيير الظروف للعودة إلى الفترة السابقة، أي إلى الفترة التي كانت فيها المساعدات العربية والدولية تتدفّق بلا ضوابط.
وهذا يعني خصوصاً المراهنة على سقوط ترامب في الانتخابات، والمجيء بخلفٍ ديموقراطي يَسترجع نهج باراك أوباما. وهذه المراهنة مشكوك في نجاحها، عدا عن أنّ لبنان لا يبدو إطلاقاً قادراً على الصمود حتى انتهاء عهد ترامب في كانون الثاني المقبل.
قبل أشهر، وحتى الأسابيع الأولى من الانتفاضة، كان مُمكناً للبنان أن يدير إصلاحاته بنفسه، من دون تدخلات خارجية. فيباشر تدابير جدّية لاسترجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة والمحوَّلة، ويؤدي بناء الثقة في القطاع المصرفي إلى عودة الأموال المسحوبة وأموال المغتربين، لكنّ سلوك السلطة المراوِغ قضى على هذه الفرصة.
اليوم، هناك اتجاه لمدّ اليد اضطرارياً إلى صندوق النقد. ويُسرَّب أنّ الصندوق يعرض على لبنان قروضاً بـ15 مليار دولار، ضمن برنامج إصلاحي متكامل. وما هرب منه أركان السلطة، أي الرقابة والإصلاح والشفافية، سيفرضه الصندوق والمؤسسات المانحة الأخرى.
ولكن، ماذا عن الأموال المنهوبة؟ ولماذا يجري التفكير باقتطاع الفُتات من حقوق الفقراء في المصارف لا بالمليارات التي نَهبها حيتان المال؟
بعض الخبراء يعتقدون أنّ هناك خبثاً مقصوداً في تسليط الانتباه على بضع مليارات من المساعدات الدولية أو من «الكابيتال كونترول» وسواهما، فيما استعادة جزء ضئيل من الأموال المنهوبة يوفّر مقداراً أكبر بكثير، ومن دون تركيب المزيد من الديون على لبنان.
ليس واضحاً حجم الأموال المنهوبة في لبنان. لكنّ الخبراء يجمعون على أنها تراوح ما بين 150 مليار دولار و200 مليار. وتقديرات وزارة الخزانة الأميركية، التي أوردتها «الواشنطن بوست»، ترفع الرقم إلى 800 مليار دولار.
إنّ استعادة 10 % من الأموال المنهوبة يوفّر رصيداً كافياً للانطلاق في خطة الإنقاذ، ويخفّف من وطأة الضغط الخارجي على البلد. ولكن، حتى اليوم، لا يريد السياسيون فتح الملف، ويفضّلون التفتيش عن طريقةٍ لسرقة تعبِ الفقراء في المصارف. ولكن هل سيمرُّ ذلك، فيما الجوع كافر؟