هناك قضايا ومسائل لا يلغي استهلاكها بشكل مبتذل من قبل قوى وخطابات وتجارب أنها قضايا ومسائل أساسية وراهنة وملحة يصير أي تحليل وأي طرح ناقصين من دونها.
فلو ابتذلت، على سبيل المثال، ألف حركة ديماغوجية مفهوم الفقر، لا يلغي ذلك أنّ ثمة فقراً وفقراء، ولا يمكن التحجج بكيفية استخدام المفهوم لإبطاله. الاستعمار والامبريالية كذلك الأمر. كل التركة العالمثالثية في استسهال رد كل شيء الى الاستعمار والامبريالية، لا تلغي أن ثمة بالفعل استعماراً وامبريالية، وأن ما حفره المستعمرون في بنى المجتمعات التي استعمروها كان خطيراً للغاية، ولا يمكن المرور عليه مرور الكرام عند مقاربة الأوضاع الحالية لهذه المجتمعات.
القضايا الشاملة والمزمنة معرضة لأنماط من الاستهلاك الذي يوحي مع الوقت بأن القضايا جرى حلها وتجاوزها أو أنها أصيبت بحد ذاتها بالتلف، لكن ذلك غير صحيح.
للقضايا المزمنة والأساسية استقلالية نسبية كبيرة عن أنماط تدبرها وتدويرها واستهلاكها، فلو ابتذلت كل الحركات الديماغوجية قضية الفقر، فليس لذلك علاقة سببية مع استمرار الفقر في الوجود أو عدمه، تماماً مثلما أن سقوط الشيوعية أواخر القرن الماضي لا يعني أن مشكلة اللامساواة الاجتماعية قد حلّت أو لم تعد مطروحة.
المشكلة مع «حزب الله» يراد لها في الوقت الحالي أن تقع في مطبين: أحدهما، مثل حالة الفقر أو الاستعمار في ما تقدم، مطب ادعاء أن التركيز على الحزب وسلاحه ووجهة سلاحه قد استهلك في الخطاب، وبرّر تقاعسات سياسية واجتماعية كثيرة، وأنّه ينبغي توسيع دائرة الاستهداف مثلاً، «ضد الجميع»، أو حصرها بالمعارك الجزئية «النقابوية» في المقابل. بيد أن التلف الخطابي لا يلغي واقعة ان الحزب يصادر قرار الحرب والسلم، وأنه لا يمكن أن تعلو في أي بلد مشكلة اجتماعية او اقتصادية او سياسية على مصادرة فريق فيه قرار الحرب والسلم واستبعاد الآخرين والسعي للهيمنة عليهم، وبالخروج عن الدولة. طبعاً بإمكان المرء ان يكون هزلياً ويدعي أن كل القوى تصادر قرار الحرب والسلم.
وحتى لو استغل كل واحد منّا هذه المشكلة ومزجها بمآربه هو، فهذا لا يلغي أنها مشكلة المشاكل. ولو برّر بها كل واحد تقاعسه أو تأجيله لموضوعات حيوية أساسية، وهذا في معظم الوقت يستدعي الشجب، لا يلغي ذلك أنها المشكلة المركزية. لا يعطي ذلك مبرراً لتعطيل أو تأجيل قضايا أخرى، لكن التناقض السياسي الرئيسي مع «حزب الله»، بما أنه مصادر قرار الحرب والسلم، لا يعلوه أو يماثله في المجتمع اللبناني تناقض.
هناك طبعاً تناقضات بنيوية أعمق قائمة بين أنسجة المجتمع وطبقاته، وهناك تناقضات يومية قد تفرض نفسها في لحظة بعينها على هذا التناقض الرئيسي، لكن التناقض السياسي الرئيسي عندما يتعلق الأمر بحال الحرب والسلم، أي حال النقلة، والجيئة والذهاب، من الحرب كشكل لاستمرار السياسة بوسائل أخرى، وبين السياسة كشكل لاستمرار الحرب بوسائل أخرى، هي مع الحزب القائم بالحروب، حزب الاستنزاف الطويل المدى، «حزب الله«.
هذا عن المطب الأول، مطب اغراق «رئيسية» المشكلة مع «حزب الله» بعناوين وشطحات، سواء كانت ذات حيثية أو مفتعلة، بحجة ان الكلام عن «حزب الله» صار معاداً مكرراً وتبريرياً.
المطب الثاني هو في المقابل مطب حصر التناقض مع الحزب في موجة واحدة، في ايقاع واحد، وعدم فهم أن مشكلة مزمنة في بلد مركب كلبنان، وفي بلد متصل بدوائر النفوذ ومفاتيح التحكم القريبة والبعيدة والعابرة للبحار، هي مشكلة لا بد وأن تخضع بالضرورة لتنوع في مواقيت الشد واللين، والتسخين والتبريد.
خوض هذا الصراع على قاعدة تصادمية حصراً، وبالتالي في منحى تناحري، والتحريض على فكرة التسويات في السياسة، لا يساعد على التبصر الصحيح. لا شك ان الشعبوية هنا يمكن ان تجد ما يسندها في قلة مردود تسويات ومبادرات بعينها، ناهيك عن تلك التي تتوقف بها عجلة الزمن، «لا معلّقة ولا مطلّقة»، لكن النقد الجدي في السياسة لتسوية غير مستوفية لشرط من الشروط، يكون بافساح المجال للتحريك، في مواجهة الانكماش، وكل تحريك، تسخينياً او تبريدياً كان، لا بدّ ان يمتلك المحرّض عليه، والقائم به، لمقاربة تتجاوز اللحظة، باتجاه مبادرة أوسع واستشرافية لحل الأزمة اللبنانية مأخوذة على نحوها الأشمل، أي النحو الذي تفتح فيه المشكلة المركزية في السياسة، مشكلة مصادرة «حزب الله» قرار الحرب والسلم، على مشكلة عميقة في البناء المجتمعي والنظامي، مشكلة في المعايير المؤسسة للعقد الاجتماعي، في ما يجعلنا نتعاقد ونتداول ونتقاسم ونتشارك ونتقاضى ونتحاكم، بأقل درجة ممكنة من هدر الطاقات والموارد والأجيال، ومن الحوادث المفجعة، والثقافات الالغائية والاغتيالية.