في “الموقف هذا النهار” تحدَّث قبل أسابيع متابعون جدّيون في واشنطن عن السياسات التي نفّذها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وعن السياسات التي بدا أنه يحضِّر لتنفيذها في الشرق الأوسط وسوريا، فقالوا إن العوامل التي أدت إليها كما عبّر عنها مسؤولون روس مباشرة ومداورة تتلخّص في تجاهل أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن روسيا وريثة دولة كبرى ولها مصالح يجب احترامها، وفي محاولة استتباعها لإخضاعها وذلك بمدّ “حلف شمال الأطلسي” إلى حدودها وبنشر درع صاروخية في دول قريبة منها. ولفتوا إلى أن الإدارة الأميركية الحالية برئاسة باراك أوباما لم يكن هدفها حشر روسيا، وأنها كانت لتبدّد مخاوفها لو حاول رئيسها بوتين مفاتحة نظيره الأميركي بهذا الموضوع بصراحة و شفافية وودّ. لكنه لم يفعل ذلك بل ساهم، ربما بسبب شخصيته، في خلق نوع من الجفاء معه، أو ربما بسبب عدم انسجامهما كيميائياً كما يُقال. وذكّروا مستغربي تردّي العلاقة بين الزعيمين ودولتيهما بأمر مهم جداً هو أن روسيا لم تكن يوماً جزءاً من أوروبا، وإنما كانت قوة دولية مهمة آسيوية أوروبية سواء أيام الحكم القيصري فيها أو الحكم السوفياتي.
لماذا هذا الكلام الآن بعد تدخّل بوتين عسكرياً في سوريا من دون تنسيق رسمي معلن مع أميركا رغم الشكوك الكثيرة عند البعض في البلدين في تواطؤ ما غير نهائي بينهما قابل للتحوّل اتفاقاً او خلافاً قوياً وجدّياً، وذلك بحسب تطور مدى التدخل المشار إليه؟ لأن هؤلاء المتابعين الجدّيين خاضوا في شخصية الرئيس بوتين في محاولة للبحث المعمّق عن دوافع سياسته “العدائية” التي بدأت في أوكرانيا، وربما تكون انتقلت إلى الشرق الأوسط عبر سوريا. ماذا في هذه الشخصية؟
يعتبر هؤلاء أن بوتين يعاني مثل غالبية مواطنيه عقدة نقص تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً. فهو مُنتَج نموذجي لبلاده وللدولة السوفياتية التي كان جزءاً منها. وهو متعجرف وقومي متطرف يستعمل نوعاً من الوطنية القائمة على الأرض والكنيسة، ولا يثق بالغرب. وهو يلوم الغرب لخسارة بلاده مواطئ القدم كلها التي كانت لها في حوض البحر المتوسط والعراق. وهو مصمِّم على إعادة بلاده قوة عالمية وعلى توسيع نفوذها. وهو يؤمن بقدرته على الإغضاب والاستفزاز وعلى اتخاذ إجراءات متطرفة، وبعدم قدرة الولايات المتحدة والغرب على الرد عليه أو بعدم إرادتهما ذلك. ولهذا السبب يمكن اعتباره مغامراً. تحرّكه في أوكرانيا ثم في سوريا يكشف جانباً سايكولوجياً في شخصيته. لكنه ارتكب خطأ بذلك. إذ إنه لا يمتلك البنية التحتية الصناعية والاقتصادية التي تمكّنه من تحقيق أهدافه. فاقتصاده قائم على النفط، وهو لا يستطيع بأسعاره المنخفضة جداً تحقيق أحلامه. ويبدو أنه نسي أن النظام السوفياتي في بلاده استُنزِف إلى الآخر عندما حاول منافسة أميركا في سباق التسلُّح. جيشه وجنوده جيّدون لكنهم يفتقرون إلى البنية التحتية التي تمكّنهم من العمل بفاعلية وديمومة خارج بلادهم. وبسبب شخصيته الموصوفة هذه لا يُدرك بوتين أنه يحتاج إلى الغرب لتصبح روسيا قوة اقتصادية مهمة. فالصين أدركت ذلك ولذا أصبحت اليوم قوة اقتصادية كبيرة. علماً أنها تواجه مشكلات حالياً. كما أن عليها الانتقال إلى اقتصاد السوق الحرّة كي تنجح في متابعة نموّها. أخيراً يقول المتابعون أنفسهم أن بوتين يعتمد على أقلية من المتنفّذين والمنتفعين (Oligarchy) لتحقيق أهدافه. و ذلك لن يحوّل بلاده قوة اقتصادية وصناعية. وأي خطأ يرتكبه سيخسِّره دعم غالبية شعبه. وهو لا يعرف أن تورطه في سوريا سيبدو داخل بلاده وقريباً خطأ كبيراً وخصوصاً عندما تبدأ كلفته المالية والدموية. وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي “الحكيم” أوباما اختار عدم تحدّي تحرّكات بوتين بعدائية، لكنه تابع تنفيذ سياسة “دعه ينزف حتى يعود إلى رشده”. والرئيس الذي سيخلفه بعد سنة وبضعة أشهر، بغضّ النظر عن شخصيته وانتمائه الحزبي، قد ينتهج سياسة عدائية أو حتى عدوانية ردّاً على تحركات “القيصر” الروسي.
هل يستطيع المتابعون الأميركيون أنفسهم تأكيد صورتهم لبوتين وسياسته من خلال سير الأمور في سوريا وخصوصاً بعد تدخّله عسكرياً فيها وعلى نحو مباشر؟