IMLebanon

الرجل الذي أنقذ العالم

 

تتبادل الولايات المتحدة وكوريا الشمالية التهديدات العلنية والمباشرة بالقصف النووي عبر صواريخ عابرة للقارات. وتترافق هذه التهديدات مع ارتفاع حاد في درجات التوتر واللاثقة. الأمر الذي يُعيد إلى الأذهان الوضع الذي كانت عليه العلاقات بين واشنطن وموسكو خلال الحرب البارد.

كان الجانبان الأميركي والسوفياتي على أهبة الاستعداد لتبادل إطلاق الصواريخ العابرة للقارات. وقد أقام كل منهما جهازاً للإنذار المبكر. حتى إذا سجل الجهاز إطلاق صاروخ من أحدهما، يبادر الآخر إلى الردّ بإطلاق مجموعة من الصواريخ المضادة.

حدث ذلك فعلاً في صباح باكر من يوم 26 أيلول 1983. يومها سجل جهاز الإنذار المبكر في مركز المراقبة «سيربيكوف-15» الذي يقع في ضاحية موسكو، إطلاق خمسة صواريخ أميركية من نوع ماينتمان المحملة بالرؤوس النووية باتجاه الاتحاد السوفياتي.

كان على مدير المركز أن يبلغ القيادة العسكرية فوراً للحصول على موافقة القيادة السياسية بالكرملين بإطلاق صواريخ مضادة تحمل رؤوساً نووية باتجاه الولايات المتحدة. غير أن مدير المركز وكان يدعى شانسلاف بيتروف شكّ في الأمر، وتريث قليلاً في إبلاغ القيادة. في ذلك الوقت بنى شكوكه على عدم ثقته بجهاز الإنذار المبكر لأخطاء سابقة. إلا أنه لم يستبعد الأمر نهائياً. فالخطأ هنا يعني الفناء. فإذا كانت معلومات الجهاز صحيحة، فإن تأخر بيتروف في إبلاغ القيادة يعني دمار الاتحاد السوفياتي. كذلك فإن تسرّعه في إبلاغ القيادة يعني إذا كانت المعلومات غير صحيحة، التسبب في انفجار حرب نووية تُهدد العالم كله بالفناء وليس الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وحدهما.

في تلك الفترة كان رونالد ريغان هو الرئيس في البيت الأبيض، وكان يُعتبر رئيساً متطرفاً ومتشدداً في عدائه للاتحاد السوفياتي. وكان يوري أندروبوف الرئيس في الكرملين، وكان عديم الثقة بالرئيس الأميركي، وشديد القلق من التهديدات الأميركية.

وسط هذا الجو السياسي المضطرب والتهديدات المتبادلة واستعراض العضلات العسكرية على المكشوف (تماماً كالجو السائد اليوم بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية)، فإن الصدام يمكن أن يقع في أي لحظة.

ومما زاد في حدة التوتر أن الاتحاد السوفياتي أسقط قبل ثلاثة أسابيع من هذا الحادث طائرة ركاب مدنية كورية جنوبية حلّقت خطأ في الأجواء السوفياتية وقُتل جميع ركابها البالغ عددهم 269 شخصاً، بمن فيهم عضو في مجلس الشيوخ الأميركي. كذلك فإن الرئيس ريغان رفض اقتراحات موسكو بتجميد التسلح، ووصف الاتحاد السوفياتي بأنه «امبراطورية الشيطان». كان المسرح مهيّأ لصدام بين المعسكرين الشرقي والغربي. مع ذلك فإن مدير محطة الإنذار المبكر انطلاقاً من شكه في جهاز الإنذار، تعمّد التأخر في إبلاغ رؤسائه دقائق عدة كانت كافية لاكتشاف الحقيقة. والحقيقة هي أن الجهاز أخطأ في قراءة انعكاس أشعة الشمس على غيوم مرتفعة، فبدت له وكأنها صواريخ.

لو أن بيتروف سارع، كما هو مفترض به أن يفعل، إلى إبلاغ رؤسائه بالمعلومات التي ظهرت على شاشة الإنذار المبكر؛ ولو أن الكرملين رد كما هو مفترض أيضاً بإطلاق صواريخ تحمل رؤوساً نووية على الولايات المتحدة ؛ ولو أن الولايات المتحدة ردت على القصف بمثله كما هو متوقع أيضاً، فأين كان العالم اليوم؟

من أجل ذلك جرى في عام 2014 إعداد فيلم وثائقي عن هذه الحادثة التاريخية النادرة تحت عنوان: «الرجل الذي أنقذ العالم».

واليوم يهدد الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بقصف الولايات المتحدة وحليفتيها اليابان وكوريا الجنوبية بصواريخ تحمل رؤوساً نووية، أثبت عملياً أنه يملكها.. ويبادله الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي هو أشد تطرفاً من ريغان، بتهديد أعنف بقصف كوريا الشمالية وتدميرها بالكامل. وهو قادر فعلاً على ذلك.

وسط هذا الجو المتأزم، فإن أي خطأ في المعلومات يمكن أن يجرّ الإنسانية كلها إلى كارثة مدمرة، لأنه من الصعب أن تتكرر تجربة «بيتروف».