في محاولتها لسبر أغوار شخصية قائد «فيلق القدس»، قاسم سليماني، وإخراجها من الغموض الذي يحيط بها، لجأت الصحف الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، إلى إعطاء هذه الشخصية صفات أكثر غموضاً: «قائد الظل»، «فارس الظلام»، «العدو اللدود» أو «إله الانتقام». قد تصبح هذه الألقاب ماركة مسجّلة مع الوقت، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها تشبه الشخص الذي تتحدث عنه، فلطالما لجأت البروباغندا الأميركية إلى ما يناسبها من أجل الترويج… لما يناسبها.
قاسم سليماني الأمس في الصحافة الغربية هو نفسه قاسم سليماني اليوم. وإن كان ما كتب عنه منذ ثلاث سنوات ليس بالكم الذي نشر خلال الفترة الأخيرة، لكن محاولة تحليل شخصية هذا الرجل «الغامض» أوقعت الإعلام الغربي في التكرار والمزيد من الالتباس.
بحسب مجلة «فوربس» الأميركية، هو ثاني أقوى وأخطر رجل في العالم لعام 2011، وهو «إله الانتقام» و«العدو اللدود» وفق صحيفة «ذاغارديان» البريطانية في عام 2011 ومجلة «نيوزويك» الأميركية في عام 2014. وفي تقرير نشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، منذ سنتين، إنه «رجل الفوضى الإيراني في العراق الذي مازال يغيظ واشنطن». وكغيرها من وسائل الإعلام الغربية، وصفت الصحيفة سليماني بـ«قائد الظل» و«المسؤول عن السياسة الإيرانية تجاه جيرانها». كذلك اجتمعت مع غيرها في الإشارة إلى أنه «من أقرب المقربين إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، علي خامنئي».
وما رُوّج له في عام 2011 في صحيفة «ذا غارديان» عن أن قاسم سليماني يدير السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، استرجعته مجلة «نيويوركر» بطريقة أخرى، في تقريرها الشهير والطويل الذي نشر بعنوان «قائد الظل» (The shadow commander) في أيلول 2013.
نقل مراسل «ذا غارديان»، مارتن تشولوف، عن رئيس الاستخبارات الأميركية السابق، ديفيد بترايوس، الذي كان جنرالاً في العراق عام 2008، أن سليماني بعث له برسالة هاتفية أوصلها أحد المسؤولين العراقيين، ليصبح بعدها «عدوّه اللدود» (nemesis). وقال في هذه الرسالة: «جنرال بترايوس، عليك أن تعلم أنني أنا قاسم سليماني أدير السياسة الإيرانية في العراق، لبنان، غزة، وأفغانستان، وطبعاً السفير في بغداد هو عضو في فيلق القدس، والشخص الذي سيخلفه سيكون عضواً في فيلق القدس أيضاً».
أما في تقرير «نيويوركر»، فقد استند الكاتب ديكتسر فيلكينز إلى أقوال السفير الأميركي الأسبق في العراق، رايان كروكر، الذي تحدث عن «تعاون إيراني ـ أميركي» في أفغانستان لمحاربة حركة «طالبان» بإدارة غير مباشرة من قبل سليماني، ثم «مواجهة أميركية ـ إيرانية غير مباشرة» في العراق وأيضاً بقيادة سليماني. كذلك اعتمد الكاتب على أقوال مسؤولين آخرين للتطرق إلى دور قاسم سليماني في رسم السياسة اللبنانية عن طريق «حزب الله» وأيضاً السياسة السورية.
سليماني أيضاً «مصدر رعب وخوف» لمن يعرفه وللمقرّبين منه، وفقاً لما توافقت الوسيلتان الإعلاميتان على الترويج له، من دون مواربة. قال مارتن تشولوف في تقريره إن «وزير أمن الدولة العراقي السابق، شروان الوائلي، يعرف سليماني جيداً، وقد اتخذت المحادثة الرسمية بين ذا غارديان والوائلي منحى مختلفاً ما إن تم ذكر اسم سليماني».
سأله تشولوف «متى كانت المرة الأخيرة التي أتى فيها قاسم سليماني إلى المنطقة الخضراء؟»، لترتجف يد الوائلي اليسرى قليلاً وتتجهم ملامحه، وليجيب: «تقصد السيد قاسم سليماني»، ويعطيه درجة كبيرة من الاحترام، رافضاً الإفصاح عن أي معلومات، بحسب تشولوف.
لكن الشخص الذي يخاف سليماني، في تقرير ديكستر فيلكينز، هو الرئيس العراقي السابق، جلال الطالباني. «يستذكر ضابط استخبارات كبير في بغداد زيارته لطالباني في منزله خلال رحلة قام بها إلى شمال العراق، ويقول إنه عندما دخل، رأى قاسم سليماني جالساً هناك، يرتدي قميصاً أسود وسترة سوداء. نظر كلا الرجلين أحدهما إلى الآخر»، بحسب فيلكينز الذي نقل عن ضابط الاستخبارات نفسه قوله: «كنت أعرف من يكون وهو يعرف من أكون، وعندما تصافحنا لم يقل شيئاً»، مضيفاً «أنا لم أرَ قط الطالباني مجاملاً لأحد إلى هذا المدى. لقد كان يشعر بالخوف».
التكرار الذي وقعت فيه الصحف الغربية في إطار وصفها سليماني، وصل إلى الألقاب التي أُطلقت عليه. فـ«العدو اللدود» أو «إله الانتقام» (nemesis)، الذي ورد في «ذا غارديان»، لجأت إليه مؤخراً مجلة «نيوزويك» لعنونة تقرير من المفترض أن يكون عن الدور الذي يلعبه قاسم سليماني في العراق في «القضاء على داعش بعدما حارب الأميركيين». ولكن رغم صورة سليماني التي ظلّلت التقرير، لم تأتِ الكاتبة جانين دي جيوفاني على ذكره فيه إلا مرتين أو ثلاث، من دون تقديم ما هو جديد عمّا ذُكر في وسائل إعلامية أخرى.
يبقى أن بعض الصحف والمجلات الغربية راحت مؤخراً تحلّل السبب الذي دفع سليماني للخروج إلى الإعلام بعدة صور له في ساحة المعركة في العراق. وفي تقرير بعنوان «ظهور فارس الظلام»، رأت مجلة «فورين بوليسي» أن ظهور سليماني على الإعلام يكشف الأساليب المختلفة التي تحاول واشنطن وطهران من خلالها توصيف دورها في الحرب ضد «الدولة الإسلامية». فبينما تبرز الولايات المتحدة مشاركتها من خلال الضربات والغارات الجوية تحت مظلة حلف ضعيف، تتخذ الحكومة الإيرانية مقاربة مختلفة تماماً، بحسب المجلة، وهي «تجميل مشاريع منفردة لها في العراق والقول إن إيران، وليست الولايات المتحدة، التي تستحق الثناء لتحقيق الانتصارات الأخيرة، مهما كانت مؤقتة».