IMLebanon

الرجل الذي ارتدى «معطف التاريخ»

تلقى النزلاء دعوة لاستقبال الوافد الجديد. وكالعادة سرت قشعريرة في فندق التاريخ. اكتسحت موجة غضب عاتية جوزيف ستالين. اعتبر الدعوة إهانة. التاريخ ليس داراً للعجزة. ولا استراحة للتقاعد. وليس جمعية خيرية. لم يرد اسم الوافد في حرب كبرى. لم نسمع عن ضحاياه. لم يطحن دولة أو شعباً. لم يبدد أبناء قومية. لم ينجب نهراً من النعوش. ولم يكن حاضراً في المنعطفات الكبرى.

. يشعل ستالين غليونه ويتمشى غاضباً الدعوة استفزازية بامتياز. الوافد عدو غدار. شطب تضحيات «الجيش الأحمر» وإنجازاته. تجاهل أننا دفعنا باهظاً ثمن اللحاق بأدولف هتلر إلى وكره. الوافد رجل كريه. رأى جدار برلين يترنح فانقض على الفريسة. هتك الجدار الذي كان حدود دولة وحدود نموذج وحدود إمبراطورية. استدرج ألمانيا الشرقية إلى حضن الوطن الأم ودفع الإمبراطورية إلى حتفها. تساقط «الرفاق» كأوراق الخريف وانتحر الاتحاد السوفياتي واندثر.

التاريخ أستاذ في المكر والإهانات. تتوهم أنك حجزت مقعدك النهائي فيه. فجأة يطالعك بروايات جديدة. يعيد إلى أذنيك أصوات ضحاياك. ويعيد تركيب الأحداث والأحجام.

ومن يدري فقد نتلقى غداً دعوة لنكون في استقبال الخائن الكبير الذي استدرج العاصفة. الخائن الذي أضاع الأرض والدم والهيبة واسمه ميخائيل غورباتشوف.

قلب شارل ديغول بطاقة الدعوة. لا يعرف شيئاً عن هيلموت كول. لكنه قرأ في الصحف أن الرجل يسمى «مستشار الوحدة». ليس بسيطاً أن تسبغ الصحف على رجل اليوم اللقب الذي كان حكراً على بسمارك. يبتسم ديغول. يعتبر أنه ساهم في تشجيع ألمانيا على النوم في الحضن الأوروبي يوم طوى مع كونراد أديناور صفحة العداوة المزمنة بين البلدين. يبتسم مرة أخرى. يجد صعوبة في حفظ الرجل الجديد الذي تسلل إلى مكتبه في الإليزيه. تغير العالم. يأتي القادة الجدد من «السوشيال ميديا» وليس من معارك الحرب العالمية. في أي حال سيشارك في الاستقبال.

فرنسوا ميتران سيكون حاضراً في استقبال الرجل. صورة المصافحة الشهيرة قرب فردان لا تزال طازجة في ذهنه. ساهم هو الآخر في إنضاج خيارات كول. في انحيازه إلى خيار ألمانيا الأوروبية والابتعاد عن ارتكاب حلم أوروبا الألمانية. مارغريت ثاتشر ستحضر. لم يكن سراً أنها لم تستسغ أسلوب كول. وأصابها النفور من الصحون التي توفرها مائدته. لكن لا يمكنها إنكار أن الرجل نجح في تغيير ألمانيا وأوروبا ومعهما العالم.

أعاد صدام حسين قراءة الدعوة. فتح يديه مستغرباً. كيف يسمى قائداً تاريخياً من تدفعه إلى القصر صناديق الاقتراع وتخرجه منه؟ من لم يطلق رصاصة ولم يلتهم رفاقه وحزبه وبلاده؟ تغير التاريخ وتغير الوافدون إليه. لا شيء في سيرة الرجل يشبه الحرب الطويلة مع إيران أو محطة حلبجة أو غزو الكويت. العالم ظالم. أعاد كول الفرع إلى الأصل ولم يعاقبه أحد. سيلبي الدعوة على رغم انشغالاته. قبول كول في نادي التاريخ أهون ألف مرة من رؤية صور قاسم سليماني يرقص بالسلاح في الأنبار وعلى أنقاضها.

حين كان هيلموت كول يقيم في قصر المستشارية (1982 ­ 1998 (كانت ليبيا تقيم في قبضة معمر القذافي. لم ترقه الدعوة. من هو هيلموت كول لينزل في الفندق الذي يستضيف من أرسلهم التاريخ في مهمات كبرى ثم استرجعهم للإقامة بين ضلوعه؟ لم نسمع أنه صاحب نظرية عالمية. أو أنه ألف كتاباً يوازي «الكتاب الأخضر». أو أضرم النار جواً وبراً وبحراً. كول رجل عادي جداً يمكن العثور على أمثاله في الجامعة أو الشارع. إنه يصلح رئيساً لمجلس إدارة شركة أو مصرف. أما مواصفات القائد التاريخي فشيء آخر. في أي حال سيحضر المناسبة. وسيرتدي حلة ملك ملوك أفريقيا.

لا غرابة أن يستغرب النزلاء اسم الوافد الجديد. هو نفسه لم يكن يتوقع أن يستدعيه القدر إلى دور هائل بحجم قامته. لم يجرؤ على الحلم بأن ألمانيا ستتوحد في أيامه وعلى يديه. حين تولى المستشارية كان منهمكاً بنسج العلاقات هنا وهناك. تعزيز سياسة الانفتاح حيال الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وترسيخ العلاقات مع أميركا وأوروبا وصيانة الروح الأطلسية. لم يكن ينتظر ما سيسميه بوتين لاحقاً أكبر كارثة جيو ­ استراتيجية في القرن٬ أي غياب الاتحاد السوفياتي.

كان كول في زيارة إلى بولندا. أبلغه مساعدوه في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) أن ثقباً حدث في جدار برلين وأن الألمان الشرقيين يستعدون للتدفق. قرر٬ كما قال٬ أن يرتدي  «معطف التاريخ» وعاد إلى بلاده. قرر التقاط الفرصة التاريخية. كان عليه أن يقنع ميخائيل غورباتشوف وأن يبدد مخاوف ثاتشر وميتران وأن يفوز بدعم جورج بوش الأب.

كان لا بد من تقديم رشوة لموسكو٬ ففعل. وضمانات للأوروبيين٬ فقدمها. وعبر صناديق الاقتراع ألقت ألمانيا الشرقية بنفسها في حضن الوطن الأم.

ويوم سقوط الجدار أتلف جاسوس برتبة كولونيل أوراقه السرية التي كان يحتفظ بها في بلاد الجدار٬ وقفل عائداً إلى مقر الـ«كي جي بي» في موسكو. وكان اسم الكولونيل فلاديمير بوتين.

تضجر الديمقراطيات من أصحاب القامات الاستثنائية. تخشى أن تختنق في ظلهم. في 1998 قضت الانتخابات أن يغادر كول قصر المستشارية. ستتلطخ سمعة الرجل بفعل الصناديق السوداء التي استخدمها لاستقبال التبرعات لحزبه. لكن الضربة القاضية ستأتيه على يد تلك المرأة التي تعهدها وشجعها وأخذ بيدها. اسمها أنجيلا ميركل. لهذا لم يرحمها في مذكراته حين قال إنه حين تعرف عليها لم تكن لديها فكرة٬ ولم تكن تجيد استخدام الشوكة والسكين.

كانوا في استقباله في باحة الفندق. وصل كول مرتدياً «معطف التاريخ».