كثيرون لم يعودوا مقتنعين بأنّ ما يفعله الوزير جبران باسيل هو سلسلة «أخطاء» أو «خطايا» ناتجة من مصادفة أو«قلّة انتباه». ويقولون: ينبغي التفكير جيداً بالنتائج التي يحصدها باسيل في الوسط المسيحي خلال هذه الفترة. مثلاً، هل كان أحد ينتظر أن يحصل باسيل على هذا «الدعم السيادي» المفاجئ، المسيحي تحديداً، من أبرز صقور 14 آذار، الدكتور فارس سعيد؟
زايَد باسيل على الـ14 آذاريين الذين يتهمون «التيار» بالانقياد إلى حيث يريد «حزب الله»، وقيادة المسيحيين معه، ومعهم رئاسة الجمهورية… والجمهورية بأسرها.
في جرد اللقلوق جاهَر باسيل بأن لا عداء عقائدياً بين لبنان وإسرائيل، وفي جرد محمرش هاجمَ الرئيس نبيه بري ولا يريد الاعتذار منه، وعلى صفحات «الماغازين» تحدثَ عن خيارات لـ»حزب الله» في الداخل لا تخدم الدولة.
هذا الكلام لا يقوله اليوم حتى صقور 14 آذار… بمعزل عمّا إذا كان بعضهم مقتنعاً به أو غير مقتنع. وقد زايدَ عليهم باسيل، و«أدّى قسطه للعلى» في تعويض جزء كبير من الصورة التي يظهر فيها «التيار» مسيَّراً ضمن محور حلفاء طهران في لبنان:
- معظم أركان 14 آذار المسيحيين، وربما جميعهم، لا يصلون إلى حدّ إنكار العداء العقائدي بين لبنان وإسرائيل. وقد جاء باسيل يزايد عليهم.
- كل أركان 14 آذار المسيحيين يحافظون على علاقات طيّبة مع الرئيس بري، وبعضهم يرغب في التحالف معه في الانتخابات النيابية المقبلة. وقد خالفهم باسيل – المفترض أنه حليف الحليف – وأعلن أنّ رئيس المجلس «بلطجي».
- كل أركان 14 آذار المسيحيين مقتنعون بأنّ خيارات «حزب الله» لا تخدم الدولة، ويقولون ذلك، ويتهمون «التيار الوطني الحر» بالموافقة العمياء على نهج «الحزب». فجاء باسيل ليفاجئ هؤلاء بقول ما لم يكن منتظراً منه.
لو كان اقتصر الأمر على «حادث» واحدٍ عَرَضي، لكان ممكناً القول إنّ الأمر مصادفة. وهذا الانطباع كان الغالب عندما أعلن باسيل على شاشة «الميادين»، في دفء الفيلا الغارقة في ثلوج اللقلوق، أن لا عداء عقائدياً بين لبنان وإسرائيل.
والبعض قال: «ربما هو ضعفٌ طارئ في القدرة على التعبير، وكان عابراً. لكنّ تسلسل «الأخطاء» و»الخطايا» (بمفهوم «حزب الله» وحلفائه)، في هذا التوقيت، يُرجِّح أن يكون الأمر مدروساً».
ينظر المراقبون إلى ما حقّقه باسيل في الأسابيع الأخيرة، ويقولون: «هو اليوم أقوى مسيحياً مما كان عليه. ففي الرأي العام المسيحي فئة منزعجة من تحالف «التيار» و«الحزب»، وهي ابتعدت عن «التيار» لهذا السبب وباتت مُصنّفة في خانة 14 آذار أو في خانة المترددين.
وهذه الفئة يستهويها كلام باسيل عشيّة الموعد المقرر للانتخابات. كذلك يجتذبها شدّ العصب الطائفي باللعب على وتر الانتقام من «اتفاق الطائف» الذي أخذ صلاحيات رئيس الجمهورية. وعموماً، إنّ انتقاد باسيل سياسات «حزب الله» الداخلية يروق للرأي العام المسيحي الذي لطالما تربّى على الشعارات السيادية.
واللافت هو أنّ باسيل وضع نفسه وجهاً لوجه مع بري. وفي هذا الأمر، هو يحاول تكبير حجمه والإيحاء، في الشكل على الأقل، بأنّ المواجهة هي بين قطبين من الندّ إلى الندّ.
مسيحياً، لم يكن في الواجهة أحد، طوال الأسابيع الأخيرة، سوى باسيل. ولم تظهر إطلالات مهمّة لخصومه (أو حلفائه) في البيئة المسيحية. وفي الترجمة: «لقد أدّت الأحداث إلى سطوع نجم باسيل في البيئة المسيحية، وبروزه وكأنه قادر على التعبير عن تطلعات البيئة المسيحية أكثر من سواه».
يشبه ذلك، بدرجة أقل وفي ظروف مختلفة، طريقة صعود صورة الرئيس ميشال عون نفسه في الأعوام 1987 وحتى 1990، عندما كان قائداً للجيش ورئيساً للحكومة الانتقالية. في تلك الفترة، أدّى تصعيده المفاجئ دفاعاً عن الدولة وتحرير لبنان من الاحتلال السوري، ثم وقوفه ضد «إتفاق الطائف»، إلى أن يكتسح الرأي العام المسيحي ويصبح زعيمه ورمزه الأول.
البعض يرى أنّ هناك محاولة لاستيلاد زعامة لباسيل على المسيحيين، بحيث يكون جاهزاً لخلافة عون في الحكم، بعد انتهاء ولايته سنة 2022.
وفي الدرجة الأولى، يريد باسيل أن يستثمر المزاج المسيحي المتعاطف دائماً مع فكرة الدولة ذات السيادة، والرافض انخراط لبنان في المحاور الإقليمية. وهو يطمح إلى أن يقطف الثمار في البترون وكسروان – جبيل وجزين وسائر الدوائر في الانتخابات.
للتذكير، اضطرّ «حزب الله» إلى القبول بعون رئيساً للجمهورية، ولا أحد سواه، لأنه لم يستطع مواجهة حجّة عون بأنه الزعيم المسيحي الأقوى بلا منازع، خصوصاً بعد حصوله على تغطية الدكتور سمير جعجع. ولكن بعد انتهاء ولاية عون، ستُخلط الأوراق من جديد. وقد يكون رئيس «التيار» هو الأقوى مسيحيّاً وقد لا يكون. ومن الحيوي لباسيل أن يستعدّ لهذا الاستحقاق.
في الترجمة، مهمّ جداً أن تكون لباسيل كتلته الكبرى في المجلس النيابي وأن يبدو الزعيم المسيحي الأقوى، ليكون جاهزاً لِما بعد انتهاء ولاية عون. وهذا ما يدركه الجميع، بمَن فيهم حليفه الشيعي الأقوى «حزب الله»، الذي طاوَلته «الأخطاء» و»الخطايا» الباسيلية كلها… لكنه يلتزم الصمت تقريباً، ولا يقوم إلّا بالحدّ الأدنى من ردّات الفعل. ولو قال أحد أركان 14 آذار المسيحيين أو السُنّة إن لا عداء عقائدياً بين إسرائيل ولبنان، لحَدثَ زلزال.
إذاً، لماذا يسكت «الحزب»؟ هل يسهّل رغبة باسيل لأنّ عون نفسه يرغب في «تزعيم» صهره مسيحياً ووطنياً؟ أم انّ «الحزب» «يطوِّل باله» كثيراً لئلّا يصطدم بالحليف الماروني في ظروف صعبة يحتاج فيها إلى دعمه المطلق لمواجهة الضغوط الدولية المتنامية؟
الأرجح أنّ «الحزب» يواكب جيداً هذا الخط البياني للتصعيد، وهو يستثمره بالمفهوم الاستراتيجي. ونزاع عون – بري (الذي يترجمه نزاع باسيل – بري) لا يؤذي «الحزب» إطلاقاً لأنّ الطرفين حليفان له، ولأنّ كتلة عون النيابية المنتظرة ستكون أيضاً جزءاً من مشروعه على المستوى الاستراتيجي.
ولكنّ باسيل، كما يفعل دائماً، يستثمر موجة الدعم الاستراتيجي لتحصيل المكاسب. ومكاسبه المحقَّقة في مجلس الوزراء نموذج لذلك. وهو اليوم يلعب على وتر الزعامة المسيحية، ويحضّر الأجواء لتكبير الكتلة العونية (الباسيلية) في المجلس المقبل.
هل «حزب الله» يدعم باسيل في عملية تظهير صورته الزعاماتية؟ الواضح حتى الآن أنّ «الحزب» يكتفي بدرجة متوسطة من الردّ على «خروقاته» السياسية والاستراتيجية، ويبدو أنه يقدّر حاجة الرجل إلى المناورة. فلا بأس بأن يناور ضمن هوامش معيّنة. المهم أنه باقٍِ ضمن الدائرة.