Site icon IMLebanon

ترسيم الحدود البحرية: هل التنازل قَدَر!

 

 

 

لم يعد من المفيد الحديث عن أحقيّة لبنان في المساحات التي حدّدتها القوانين الدولية العامة وتلك المختصة بالبحار والمحيطات في منطقته الاقتصادية الخالصة، ولم يعد مجدياً محاججة السلطة السياسية وبالأخص أركانها في البراهين التقنية والجغرافية التي تثبت بما لا يقبل الشك علمية الخط 29، ولم يعد نافعاً دعوة السلطة المذكورة إلى التحلّي بشيء من الرفعة والوطنية والحنكة التفاوضية بهدف الإستحصال على أكبر قدرٍ ممكن من تلك المساحات والحقوق معتمدين على البراهين التي تم عرضها عليهم بأكثر من وسيلة حديثة مقنعة.

 

فالواضح أن أركان هذه السلطة قد قرّروا التنازل عن حقوق لبنان في ثرواته المائية والغازية والنفطية. والأكثر وضوحاً أن هؤلاء الأركان المتخاصمين-المتحاصصين قد جمعهم تقاطع مصالحهم مع الأميركي، وهم الذين كانوا يتصارعون خفية وعلناً لإثبات أحقية كلّ منهم في إدارة ملف التفاوض مع “الوسيط” الأميركي، في وقت كان يدّعي كلّ منهم أن إمساكه بهذا الملف سيشكّل ضمانة سيادية لحفظ حقوق لبنان ومصالحه.

 

صباح يوم السبت في الحادي عشر من شهر تموز من العام 2020، وردني إتصال من قصر الرئاسة في بعبدا طالباً مني الإنتظار على الخط لأن الرئيس ميشال عون يريد أن يتحدث معي، فانتظرت ثواني قليلة ليبادرني الرئيس بالسؤال عني والقول بعدها ” إشتقنا لأيام جلساتنا في الرابية”، ومن ثم الطلب مني أن أحضر إلى القصر لأنه يريد محادثتي بأمر مهم وضروري.

 

كنت أستعدّ للذهاب إلى محطة lbci لإجراء حوار في برنامج “نهاركم سعيد”، فجاوبته بأنني على موعد مع هذه المقابلة ولا يمكنني الحضور إلى القصر حالاً، فردّ بأنه سيكون بانتظاري عند عودتي.

 

في الطريق إلى أدما مقر المحطة المذكورة، قَلَّبتُ أفكاري باحثاً عن سبب هذا الإتصال الجديد بعد انقطاع عن التواصل مع فخامته منذ الأشهر الأولى لبدء ولايته. أنهيت مقابلتي التلفزيونية واتجهت نحو قصر بعبدا، فوجدت الرئيس في مكتبه بانتظاري، وبعد دقائق من المجاملات الإجتماعية إنتقل مباشرة إلى سبب دعوتي للقاء وهو مساعدته سياسياً لاستعادة ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية وفقاً للصلاحيات التي نصّ عليها الدستور في المادة 52 منه، بعدما كان رئيس مجلس النواب نبيه بري قد وضع يده على هذا الملف منذ سنوات عدة. أبديت استغرابي مع أنني فهمت أنّ المطلوب هو السعي لدى قيادة حزب الله لتأييده في طلبه هذا.

 

حينها قلت لفخامته “حتى لو قمت بهذا المسعى بناءً على قدراتي المتواضعة في التأثير على موقف الحزب الذي تمحص قيادته قراراتها تمحيصاً دقيقاً، إضافة الى تكرار سماحة السيد نصرالله لمقولة أن هذا الملف يديره الرئيس بري، فما هو الفارق الذي يمكن أن يشكله نقل الملف المذكور الى يديك”، أجابني واثقاً أنه وفق معلوماته فإن الرئيس بري يعمل في هذا الملف على أساس دراسات ووقائع تجاوزتها الدراسات والمعطيات الحديثة والإمكانيات المتطورة في مجال ترسيم الحدود البحرية بين الدول، مضيفاً “لدي فريق من العاملين والباحثين الذين أنجزوا دراسة قانونية وتقنية قوية تثبت حق لبنان في مساحات إضافية تتجاوز بكثير كل ما يُحكى عنه أو ما تم إقراره في حكومات سابقة”. فسألته من هو هذا الفريق، أجاب بتسمية شخص يدعى طوني حداد الى جانب مجموعة متخصصة في قيادة الجيش يرعاها العماد جوزيف عون الذي كان حاضراً الى جانب الرئيس في مكتبه عند الإتصال بي . إتفقنا على القيام ببضع خطوات تمهيدية أولها الاجتماع مع هذه المجموعة وفي مقدمها قائد الجيش وطوني حداد الذي كان قد عينه الرئيس مستشاراً له للعلاقات العامة بهدف تنسيق الخطوات اللازمة مع المعنيين في الإدارة الأميركية، كونه كما علمت لاحقاً أبرز الوجوه “العونية” العاملة في واشنطن منذ عشرات السنين. وذلك للإطلاع على الدراسة الجديدة التي من المفترض أن أقوم بتسويقها سياسياً لدى بعض الأطراف وبالأخص حزب الله ومن ثم إعلامياً كي تتحول الى قضية وطنية سيادية يجمع عليها اللبنانيون.

 

بعد أيام قليلة كنا على طاولة فخامته: العماد جوزيف عون ومعه مدير المخابرات السابق طوني منصور والسيد طوني حداد وأنا، وذلك للتباحث في آليات تظهير هذا المستجد القانوني التقني وتحويله الى مرسوم يُعدِل المرسوم رقم 6433/11، بعد أن كان فريق العمل الذي عمل على إعداد هذه الدراسة والمكون من المستشار طوني حداد والخبير القانوني المتميز الدكتور نجيب مسيحي والعقيد المثابر على ملاحقة تثبيت حقوق لبنان مازن بصبوص قد قدم في الأول من شهر حزيران العام 2020 لرئيس الجمهورية عرضاً مصوراً ومفصلاً في إحدى قاعات القصر، بحضور مستشاره العميد بول مطر والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي صودف وجوده عند الرئيس الذي دعاه الى مشاركته الإطلاع على هذا العرض.

 

لن أدخل الآن في تفاصيل الاتصالات واللقاءات والإجراءات التي تبعت البداية وخصوصاً منها الترتيبات التي حصلت مع حزب الله، لأن لكل أمرٍ أوان.. ولكن الرأي العام اللبناني بمعظمه يعلم العوائق المُعلنة التي منعت تمرير المرسوم المُعدل تمهيداً لإرساله الى الأمم المتحدة، وسأكتفي بإبراز وثيقة موقعة من فخامة الرئيس موجهة الى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وهي عبارة عن رسالة تتبنى بوضوح مضمون الدراسة المذكورة وتشكل تعويضاً عن المرسوم الذي تعذر إقراره.

 

غير أن هذه الرسالة التي وقعها الرئيس بقلمه يوم السبت في الخامس من شهر أيلول 2020، على أن يستدعي ممثل الأمين العام في لبنان يان كوبيتش يوم الأثنين الذي يليه في السابع من الشهر ذاته، لم تجد طريقها الى يد كوبيتش، إذ أن “ملاك” القصر تحرك لتعطيل دعوة ممثل الأمين العام الى القصر الرئاسي.

 

الترسيم والمقاومة،

 

يتمسك أركان السلطة بخطاب قيادة حزب الله حول ترسيم الحدود البحرية القائل بالوقوف خلف الدولة اللبنانية. وهو خطاب كان يعبر عن عدم رغبة الحزب الحلول محل الدولة في ملف يستوجب التواصل مع الوسيط الأميركي، بعدما أودعه هؤلاء الأركان إعتمادهم عليه لإقناع قادة كيان العدو الإسرائيلي بحل يصيغه من عندياته، كما حملوه أمانة وقف مسلسل العقوبات عنهم وعن عائلاتهم والتي أصابت منهم أكثر من مقتل سياسي.

 

لذلك تعبير “المقاومة” هنا يعني كل من يؤمن بثقافة وخيار المقاومة، وكل من ساهم بشكل أو بآخر بالعمل في أطرها المتعددة، خصوصاً وأن ملف الترسيم يفرض تحدياً وجودياً على المقاومة، بما هي وسيلة لمنع العدو من تحقيق مطامعه في أرض لبنان وثرواته النهرية والبحرية، كما هي قوته المساندة لجيشه الوطني في التصدي لعدوان إسرائيل. ولكن ماذا لو تخلت الدولة عن واجباتها في الدفاع عن لبنان وعن حدوده وعن ثرواته؟ وهو السبب الذي إعتبره الإمام السيد موسى الصد مسؤولية وطنية ودافعاً مباشراً لإنشاء مقاومة لبنانية. (*)

 

أسئلة كثيرة على المقاومين كافة الإجابة عليها تبدأ بعدم جواز الإستنسابية أو الإنتقائية في مواجهة أطماع العدو، ولا تنتهي بالسؤال: لو وقف المقاومون الأوائل خلف الدولة، هل كان لبنان الآن محرراً من الاحتلال الإسرائيلي وهل ستكون المقاومة قد بلغت ما بلغته من قدرات دفاعية تحميه من شر هذا الكيان الغاصب الجاثم عل حدوده الجنوبية؟

 

“آموس هوكشتين”،

 

بلغني من مصادر عدة أن الوسيط الأميركي سأل العديد من الذين إلتقاهم عن إمكانية إسكاتي وإسكات آخرين يتصدون لخطته لجَرّ المسؤولين اللبنانيين الى التنازل عن حقوق لبنان في حدوده البحرية الجنوبية. لن أتوقف عند ما يقوم به الدساسون لدى دوائر السفارة الأميركية بهدف “شيطنة” كل من يعارض أماني هؤلاء وأربابهم في السلطة، لأن الأهم اليوم هو منع حصول هذا التنازل وإستجماع ما أمكن من قوة اللبنانيين الأحرار الشرفاء في مواجهة سرقة ثروة وطنية واعدة. وللسيد هوكشتين، نصيحتي لك أن تقرأ تجربة أسلافك حول محاولاتهم فرض شروط “إسرائيلية” على لبنان، هذه المحاولات التي بلغت ذروتها في التوقيع على إتفاق 17 أيار العام 1983، الذي ما لبث أن أُسقِطَ بسواعد المقاومين وبإنقلاب سياسي كبير أخرج لبنان من العصر الأميركي-الإسرائيلي الذي لن يعود إليه.

 

(*) قال مؤسس المقاومة الإمام السيد موسى الصدر بتاريخ 15/4/1974: “..سوف نؤسس جيشاً لكي ندافع عن اللبنانيين، ونحمي حدود لبنان ونحمي شواطئ لبنان”

 

الترجمة االعربية لنص رسالة رئيس الجمهورية

 

رئاسة الجمهورية اللبنانية

 

الرئيس

بعبدا، في 5 أيلول 2020

صاحب السعادة أنطونيو غوتيريش

أمين عام الأمم المتحدة

بلازا الأمم المتحدة 760

مانهاتن، نيويورك، 10017-6818

الولايات المتحدة

 

حضرة الأمين العام،

 

أكتب إليكم بخصوص حدود لبنان البحرية.

 

في 1 تشرين الأول 2011، أصدر سلفي الرئيس ميشال سليمان مرسوماً (المرسوم رقم 6433) بشأن ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. عملاً بالفقرة 2 من المادة 75 في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تم إيداع نص هذا المرسوم، فضلاً عن الرسم البياني وقوائم الإحداثيات الجغرافية الملحقة به، لدى أمين عام الأمم المتحدة آنذاك، السيد بان كي مون، في 14 تشرين الثاني 2011.

 

بموجب المادة 3 من هذا المرسوم، تمسّك لبنان بموقفه حول حدود مناطقه البحرية. ينص هذا البند على إمكانية مراجعة الحدود المرسومة وتعديلها إذا توفرت بيانات أكثر دقة.

 

في حزيران 2018، أجرى الجيش اللبناني مسحاً بحرياً لخطوط الأساس في منطقة الحدود الجنوبية في الناقورة. سمح هذا المسح للبنان بتحديد موقع نقطة بداية حدوده البحرية مع فلسطين وإحداثياتها الجغرافية بدقة، بالإضافة إلى تلك المرتبطة بالنقاط الأساسية التي يُفترض أن تُؤخَذ في الاعتبار لترسيم هذه الحدود.

 

وفي السنوات التي تَلَت إصدار المرسوم رقم 6433، حدّد عدد من القرارات الدولية التي أقرّتها المحكمة الدولية لقانون البحار ومحكمة العدل الدولية بكل وضوح الدور الذي يُفترض أن تلعبه الجزر في ترسيم الحدود البحرية. أكدت هذه القرارات على ضرورة التغاضي عن الجزر التي تُسبب تحريفاً غير متكافئ لخط الحدود البحرية في عملية ترسيم الحدود.

 

الجزيرة الفلسطينية المعروفة باسم “تخيلت” تُغيّر الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين شمالاً على مساحة تقارب 1800 كيلومتر مربع. هذا التحريف لا يتماشى بأي شكل مع خاصية متناهية الصغر تُشكّل صخرة لا يمكنها أن تحافظ على مساكن البشر أو على حياة اقتصادية خاصة بها. نتيجةً لذلك، يحق للبنان أن يتجاهلها في عملية ترسيم حدوده البحرية.

 

على ضوء الأسباب الآنف ذكرها، قرر لبنان تعديل حدوده البحرية الجنوبية والجنوبية الغربية المُطالَب بها سابقاً واتباع الرسم البياني وقوائم الإحداثيات الجغرافية المرفقة مع هذه الرسالة. تبدأ الحدود البحرية اللبنانية المُطالَب بها حديثاً عند نقطة راس الناقورة التي تشكّل نقطة النهاية الساحلية للحدود البرية بين لبنان وفلسطين وتتبع خطاً مُعدّلاً ومتساوي الأبعاد لا يأخذ في الاعتبار جزيرة “تخيلت” والخصائص البحرية المماثلة الأخرى في جنوبها. تتماشى هذه الحدود مع القواعد القانونية الدولية التي أصبحت راسخة الآن بشأن ترسيم الحدود البحرية.

 

أتمنى أن تُنشَر هذه الرسالة، إلى جانب الرسم البياني وقوائم الإحداثيات الجغرافية الملحقة به، على الموقع الإلكتروني الخاص بشعبة شؤون المحيطات وقانون البحار وفي الإصدار المقبل من نشرة قانون البحار. يُفترض أن تُعطى الأولوية للرسم البياني الجديد وقوائم الإحداثيات الجغرافية الجديدة بدل تلك التي أودعها لبنان سابقاً.

 

أود أن أغتنم هذه الفرصة لتذكير جميع الجهات العامة والخاصة المعنية بأن القانون الدولي يمنع تنفيذ أي عمليات حفر في المناطق الواقعة في شمال خط الحدود المرسوم حديثاً من دون أخذ إذن السلطات اللبنانية. ينطبق هذا البند تحديداً على حقلَي النفط والغاز المعروفَين باسم “كاريش” و”كاريش الشمالي”، بالإضافة إلى استكشاف ما يُسمّى “البلوك 72” الذي عرضته إسرائيل في 23 حزيران 2020. لن يتردد لبنان في اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة في حال عدم امتثال إسرائيل وأصحاب الامتياز الخاصين بواجبات ضبط النفس التي يفرضها القانون الدولي.

 

أريد أن أغتنم هذه الفرصة أيضاً لأكرر التزام لبنان بالقانون الدولي وواجبه بتسوية أي نزاع مرتبط بحدوده البحرية سلمياً، بموجب الإجراءات المنصوص عليها في المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة.

 

وتفضلوا، يا صاحب السعادة، بقبول فائق احترامي.

 

ميشال عون

 

رئيس لبنان