يطل التاسع من شباط، حاملاً بركات الأب الروحي الذي خاض معارك الألم، فتأمّل ولمع نجمه على خطى المعلّم الأول، وحمل معه الى السماء مِن زاد من زرع من الرهبان والنسّاك الذين رسخوا عميقاً في الأرض المشرقية إيماناً بالله، وتعلّقاً أكيداً بالحرية.
هو ماروننا المُشع بتجرّده، عَلَّمَ ووطّد المارونية فعل حياة، وإنتشر أبناؤها في بلاد الأرز ولم تنحرف أبحاثهم ولا تاهت أهدافهم الى اعتبارات عقيمة… متشبثين بما ورد في انجيل متى: «فليسطع نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات».
تسلّموا الأمانة تقليداً غالياً من القداسة والرسالة والإنفتاح، وبذلوا دماءهم وتعذّبوا على مرّ العصور في سبيل الدفاع عن هذا الإرث المقدّس… فأضحوا شعباً لا يُقهر، وإن كوته أنانيات بعض قادته وظرفياتهم الخائبة.
حتى لكأني بالمارونية عينها تتكلم، ولبنان بالذات وبكل أطيافه يُردّد ويُعيد.
هم من سكنوا لبنان الجبل الناصع وملعبُ النمور، يتطلعون من فوق وادي قاديشا حيث متكأ الغيوم نحو الأفق البعيد، الذين لم يلبثوا ان فتقوا جداره شهادةً واستشهاداً وبراعة وجود.
هم نواة الأمة اللبنانية، من وصفهم الكتاب المقدّس، «كالأرز قاماتهم وكالسنديان صلابتهم».
وللمتساءلين عن فعل الموارنة المنجز!… أول فعلهم الحضاري كان لبنان الحرّ الكبير وهو أول مآتيهم. وهم في تكوين لبنان ضرورة حتمية كالقلب في كل جسد.
هم المسيحانيون في الوطنية الذين لم يريدوا لأنفسهم في التاريخ ما لم يريدوه للجماعات الروحية المكوّنة للأسرة اللبنانية.
حقائقهم هي ثوابت التاريخ والوجود. ووطنهم لبنان هو وطن كل اللبنانيين مقيمين ومنتشرين ومتحدّرين والمناضلين من كل مذهب ودين المرّوعين في هذا المشرق المتعب.
قضيتهم في أي بنيان سياسي جديد، معزّز للولاء الوطني ومانع للتصادم، هو تعددية المجتمع اللبناني بحضاراته الأصلية: حريةً وثقافة وتربية وعدالة مجتمعية.
شرف لهم اتهامات بأنّهم رغبوا بالاستئثار بلبنان، والحق يُقال انّهم يجنحون الى الرغبة بالاستئثار بخدمة لبنان والشهادة لأرزه، هم كالكهنة من آلاف مذابحهم يهتفون: أومّن بإله واحد … حضارتهم لا تنبع الّا من منابع الحرّية ولا تنمو في غير ظلالها …
ووصيتهم يوم الاستشهاد: «أموت هنا… من أجل أن يحيا لبنان حراً».
واليوم يعايشون ضياع البوصلة وتبخّر أحلام القضية….
فمؤسساتهم التربوية، نخاف أن تتحول الى روحية منظمات غير حكومية على ما قال قداسة البابا فرنسيس. وقد كانوا سبّاقين، إذ أوصى مجمعهم اللبناني سنة 1736 بإلزامية التعليم وبمجانيته وديمقراطيته، أي شموله الجميع دون تمييز، وذلك قبل الثورة الفرنسية.
وها عين ورقة أولى جامعات الشرق عام 1789 قد لمعت بخريجين قد جبلوا العلم بخميرة الإيمان القويم. كما أنشأوا أول مطبعة في الشرق محفوظة في دير مار انطونيوس قزحيا مهد الرهبان البلديين اللبنانيين حماة الرسالة.
قضيتهم جعل لبنان مختبراً حياً للإنجازات، لا سوق نحاسة حيث ولاءات بعض قادتهم قد جنحت نحو بلاد ليس لهم فيها موطئ قدم، ولا تربطهم بها أواصر تواصل عبر التاريخ.
أفلم يعلم العالمون بعد، أنَّ «بكركيهم» الرابضة على أقدام سيدة لبنان هي صخرة الكيان وصوتها عن صوت الضمير لا يُزاح.
قضيتهم في خطر، إذ انّهم لم يعرفوا أن يوظفوا المواهب، بل تُركت شاردة هائمة، دون تخطيط أو توجيه، مقتصرة على ألأبناء والأصهرة والأزلام.
وهدم المواهب في السياسة والعلوم لا يشبههم. أو ليس أبلغ مما قاله المستشرق النمساوي المونسنيور مسلين «أنّه لأسهل على الأعداء وأياً كانوا ان يزعزعوا جبال لبنان من أساسها – إن ممكناً- من أن يصفعوا الإيمان في قلوب أصحابه الموارنة بأي مساس».
وليس أهم مما قاله شارل مالك: «مصير لبنان يقع في الدرجة الاولى على عاتق الموارنة، هي العناية التي شاءت هذا المجد والغناء». وهذه مسؤولية مضاعفة.
بنوا حصن لبنان الذي لن يعود كما نريد جميعاً الّا يوم يعود اليه كل مسيحي ومسلم بقلب صافٍ وليس بالتكاذب يُبصق على الطائفية،
وليس بتكاذب الوفاق الهش يُبنى الكيان، بل بالبناء على الحقيقة والواقع والدستور المتوازن.
لبناننا الماضي منهزم بفعل جماعات البزنس السياسي.. ومنهم قادة موارنة.
ولبنان المقبل لن يكون الّا مبنياً على حقائق التاريخ وصدق التضحيات وصفاء النيات، في سيادة لا تتجزأ، وحرّية لا تنهزم، وعدالة لا تتآكل.
قضيتهم ليست تعصباً بل هي عشق للبنان، هذا الذي سقط بعض من ساسته الموارنة وغيرهم في الأنانيات القاتلة، وشاح بعض رجال دينه نحو الماديات فغرقوا في الحياة الفارغة وخدمة الرساميل الزائلة…
فسقطوا وأسقطوا التجربة التاريخية في غياهب الفساد الذي لا يليق بمن جبل الأرض بحب السماء، بشعب خرجت من صفوفه أرتالٌ من القديسين والصدّيقين.
كل اعتداء على الجمهورية اللبنانية هو اعتداء على كل ماروني حر في الداخل والعالم.
وكل تجنٍ على أي مسلم او مسيحي لبناني هو تجنٍ على الموارنة بدورهم ورسالتهم.
ولا انتصاراً للموارنة إِن لم ينتصر حق لبنان الحرّ، بالمسلم الحر والمسيحي الحر. والحرّية لا تُفّسر الّا بذاتها، اقتصاداً إنسانياً ومؤسسات عادلة، وأمناً لا معايير عنده غير المواطن والوطن… حيث لا يستقوي أي فريق بعدده وعدّته… لأنّ القضية التي اجتازت 1350 عاماً، تهزّها الظروف ولكنها لا تنكسر، لا بل ستنتصر بلبنان الحرّ الآتي.