الكنيسة المارونية، خلافا للكنائس الشرقية الاخرى، لعبت ادوارا مفصلية في الشأن السياسي، خصوصا منذ مطلع القرن التاسع عشر الى اليوم لاسباب تاريخية وسياسية وكنسية تعود جذورها الى قرون مضت،ولا مجال لتفصيلها.
في المرحلة الحديثة، في القرن التاسع عشر، تبرز “المسألة الشرقية” بما هي تنافس حاد بين السلطنة العثمانية والدول الاوروبية الكبرى محوره السلطة والنفوذ. وبعد ادخال “التنظيمات” او الاصلاحات في الادارة العثمانية كان جبل لبنان محوريا في “لعبة امم” تلك الحقبة لاسيما بعد هزيمة الجيش المصري بقيادة ابرهيم باشا المتحالف مع فرنسا في مواجهة العثمانيين المتحالفين مع بريطانيا في ثلاثينات القرن التاسع عشر. هذه التحولات، اضافة الى تبدل المعادلة الداخلية التي كانت قائمة في الجبل في زمن الامارة الشهابية، ادت الى قيام نظام القائمقاميتين المأزوم منذ نشوئه، ولاحقا الى احداث 1860 وانشاء نظام المتصرفية في 1861 بعد تدخل دولي غير مسبوق بسبب العنف الذي حدث في دمشق وجبل لبنان واستهدف المسيحيين، وكان سبقه توترات طائفية في عدد من مناطق حكم السلطنة.
في زمن المتصرفية شهد جبل لبنان استقرارا في ظل نظام حكم خاص في اطار السلطنة، وبات البطريرك الماروني الشخصية الاكثر تأثيرا في الشأن السياسي والمحاوِر الابرز للدول الاوروبية وللسلطنة. وفي حين لم ينجح البطريرك مسعد في ايصال يوسف بك كرم الى مركز المتصرف، الا انه كان له الكلمة الفصل في مسائل اخرى وبات للموارنة، الذين شكلوا اكثرية عددية كبيرة في الجبل، النفوذ الاكبر في ادارة شؤون المتصرفية. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر برز دور الكنيسة المارونية في تظهير خطاب سياسي يتلاءم مع العصر، مرتبط بمسألة الهوية (patrie/nation)، صاغه بداية المطران نقولا مراد، ممثل البطريرك حبيش في اسطنبول وفرنسا، وهو الخطاب الذي شكل لاحقا ركيزة الموقف الماروني المطالب بحكم ذاتي للمتصرفية وتوسيع حدودها.
تطور هذا الخطاب في اوساط العلمانيين الموارنة في مطلع القرن العـــــشرين في لبنان وبلدان الانتشار، لاسيما فرنسا ومصر واميركا، وكان ابــــــرزهم بولس نجيم المعروف بـ(Jouplain) في كتابه (la question du Liban) في 1908 الذي كان الاكثر تعبيرا عن هذا الواقع الجديد. وجاء موقف البطريرك الحويك المطالب بقيام دولة لبنان الكبير في مؤتمر فرساي بعد الحرب الكونية، مترئسا الوفد اللبناني، في السياق عينه الذي وُضعت مداميكه الاولى منذ نحو قرن. ولاحقا، شكل موقف البطريرك عريضه المطالب بانهاء الانتداب الفرنسي محطة مفصلية في مسيرة الاستقلال في 1943، بعد ان بادر البطريرك الى عقد اجتماع في بكركي في 1941 بحضور شخصيات سياسية من مختلف الطوائف للمطالبة بالاستقلال الناجز.
تبدلت الاوضاع بعد اقرار الدستور في 1926 وانتظام الحياة السياسية في دولة لبنان الكبير، وتمحورت حول الثنائية الحزبية، الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية، كما برزت احزاب وقوى سياسية جديدة، وكذلك لاحقا مع التطورات التي حصلت بعد الاستقلال في المنطقة، ابرزها حرب 1948 ونشوء دولة اسرائيل. البطريرك المعوشي، الذي تزامن عهده مع هذه التحولات الكبرى، لم يغب عن المسرح السياسي واتخذ موقفا مناهضا للرئيس شمعون في احداث 1958 ولم يكن على وئام مع الرئيس شهاب، وكان من ابرز المعارضين لاتفاق القاهرة في 1969 واصدر مذكرة يحذر فيها من مخاطر جرّ لبنان الى نزاعات مسلحة.
في سنوات الحرب تراجع دور بكركي في الشأن السياسي ومعها دور السياسيين وباتت البلاد تحت سيطرة قوى الامر الواقع من الميليشيات المسلحة. في عهد البطريرك خريش، الذي انتخب عشية اندلاع الحرب في 1975، برز دور الرهبانيات المارونية التي شكلت “المؤتمر الدائم” برئاسة الآباتي شربل القسيس في 1976. ومع انتهاء الحرب كان للبطريرك صفير دور بارز في المراحل المتقدمة من اعداد وثيقة الوفاق الوطني بالتعاون مع رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، وهي التي اعتُمدت بعد ادخال التعديلات عليها في اجتماعات النواب في مدينة الطائف السعودية.
في مرحلة ما بعد الحرب، كان لدمشق سيطرة كاملة على مفاصل القرار في شؤون الحكم كافة. قدم البطريرك صفير ومجلس المطارنة الموارنة مذكرة خطية مسهبة للرئيس رفيق الحريري حول الاوضاع العامة في 1998. لم يلقَ التحذير البطريركي اذانا صاغية وازدادت الاوضاع سوءا. الحدث المفصلي في تلك الفترة تمثل بانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب في 2000، ما اعطى موقف الكنيسة المبدئي زخما مضاعفا للمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان البطريرك صفير قد ساند مقاومة “حزب الله” للاحتلال الاسرائيلي منذ 1993.
هذه التطورات شكلت الخلفية السياسة لتشكيل “لقاء قرنة شهوان”، الذي جمع قوى سياسية مسيحية بسبب استحالة انضمام سياسيين مسلمين في ظل ظروف تلك المرحلة. لاقى لقاء قرنة شهوان رعاية بطريركية مباشرة تولاها المطران يوسف بشاره، الذي حرص على ابقاء مسافة فاصلة بين الكنيسة واعضاء اللقاء ولم يتدخل في تفاصيل الموقف السياسي. النموذج الاقرب لهذه الحركة السياسية كان دور الكنيسة البولندية في دعم المعارضة الشعبية في عهد البابا يوحنا بولس الثاني ضد نظام الحكم الشيوعي. وجاءت الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة في 14 آذار 2005 لتطيح التوازنات القائمة منذ 1990، تبعتها الانتخابات النيابية التي اظهرت نتائجها انه بات للمسيحيين زعيم، العماد ميشال عون، على حد قول البطريرك صفير. دخلت البلاد في اوضاع جديدة بعد 2005 ولاحقا بعد حرب صيف 2006، وكذلك التحالفات السياسية التي باتت عابرة للطوائف، مثلما كانت في لبنان قبل حرب 1975، وان في ظروف داخلية وخارجية شديدة الاختلاف.
خلال حبرية البطريرك صفير اطلقت الكنيسة المارونية مراجعة شاملة لدورها ورسالتها في شؤون الدين والدنيا عبر المجمع البطريركي الماروني الذي استمر ثلاث سنوات واثمر نصوصا مرجعية في 23 مسألة تشكل خريطة طريق للكنيسة في النطاق البطريركي وبلدان الانتشار، ومنها نص الكنيسة والسياسة، وهو المحاولة الاولى في تاريخ الكنيسة المارونية لتحديد موقف رسمي من الشأن السياسي متشبثٍ بالعيش المشترك والسيادة الوطنية وداعٍ الى خيار الدولة المدنية. واستكمالا لهذا المسار، اصدرت الكنيسة “شرعة العمل السياسي” في 2009. وكان سبق هذه الحركة التجديدية السينودس من اجل لبنان الذي اعلنه البابا القديس يوحنا بولس الثاني خلال زيارته التاريخية للبنان.
في عهد البطريرك الراعي حركة مختلفة في شؤون الدين والدنيا وفي اسلوب العمل. في مراحل سابقة، لاسيما المفصلية منها في القرنين التاسع عشر والعشرين (القائمقاميتين، المتصرفية، لبنان الكبير، الاستقلال، الطائف وما بعده، انتفاضة الاستقلال)، تبنّت الكنيسة قضايا مصيرية واتخذت مواقف واضحة وتكلمت لغة العصر. اما اليوم فالاوضاع مختلفة داخل لبنان وخارجه لاسيما في المحيط العربي المضطرب. في السياسة قضايا كبرى وصغرى، والكنيسة المارونية تركت بصماتها في مسار القضايا الكبرى والتفّ حولها الشعب، اما الصغرى فدخلت غياهب النسيان.
تميزت حبرية البابا يوحنا بولس الثاني بتواصل مباشر مع الناس وبعمل سياسي هادف لانهاء الحرب الباردة. وجاء بعده البابا بينيديكتوس السادس عشر، اللاهوتي الابرز في الكنيسة الكاثوليكية، واستقال ليخلفه البابا فرنسيس الذي يسعى الى نقل الكنيسة من الاضواء والصخب الى قلوب الناس العاديين. دعوة الكنيسة تتغير ومعها اسلوب العمل. والسؤال بالنسبة الى الكنيسة المارونية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي المؤسسة التاريخية الدائمة، اين الكنيسة من النماذج التي ارساها الباباوات الثلاثة في السنوات الاخيرة؟