Site icon IMLebanon

هل قلتَ حياد؟

 

البطريركية المارونية في السياسة: متى كانت بكركي محايدة؟

 

منذ ما قبل «لبنان الكبير»، وجدت الجماعة المارونية موطئ قدم لها في ساحة القرار السياسي. نسجت علاقات مُتشعبة، ولعبت أدواراً سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وصحية. عرفت كيف تمدّ خيوطها، حتّى تُصبح صاحب «مشورة»، وتربط «هويّة» لبنان بها. اليوم، يطرح البطريرك بشارة الراعي الحياد، مُحاولاً تصويره على أنّه مطلب الكنيسة منذ البداية. لكن جولة تاريخية «سريعة» على أبرز المحطات، تُظهر العكس. الكرسي البطريركي لم يكن يوماً محايداً. و«اللاحياد» هو سبب من أسباب قوته السياسية

 

ليست الكنيسة المارونية مُجرّد مرجعية روحية في لبنان، والأهمية المُحيطة بها ليست موجودة لدى بقية رؤساء الطوائف، بصرف النظر من يكون الجالس على كرسي البطريركية، وحتى لو كان صاحب شخصية ضعيفة ولا يملك تأثيراً في الأوضاع العامة. فمنذ أن كان لبنان لا يزال جزءاً من السلطنة العثمانية، عرفت «الجماعة المارونية» كيف تُعزّز من وجودها وتتحوّل إلى «صاحبة رأي». صحيحٌ أنّ النظرة التاريخية للبنان بأنّه وطنٌ «حاضنٌ للموارنة» في هذا الشرق، أسهمت في تعزيز «سطوة» البطريركية، ولكن تبقى «لا حياديتها» هي الأساس في تحوّلها إلى «مرجعية». من دون اتخاذ «بكركي» مواقف سياسية واجتماعية واقتصادية، واستفادتها من شبكة علاقاتها الخارجية التي سخّرتها لمصلحتها، لم تكن ستُراكم إرثاً تبقى تغرف منه طيلة عقود، وحتّى بعد خفوت وهجها السياسي وانحسار دائرة المُتأثرين بتوجيهاتها.

 

يرى النائب السابق فارس سعيد أنّ طرح الحياد «يأتي من باب تأمين المصلحة الوطنية العليا، فأي استقواء بالخارج يُفسد الشراكة». وفي السياق نفسه، يتمسّك الأكاديمي والمؤرّخ عصام خليفة بأنّ الكنيسة كانت دائماً تتحدّث عن الحياد، «أكان مع البطريرك المعوشي أم الحويك. هذه مؤسسة لديها مواقف داخل بيئتها ودور تاريخي على الصُعد التربوية والاجتماعية والعلاقات مع الغرب…». أرادت الكنيسة دائماً «المحافظة على التعددية ووحدة لبنان الذي لا تتخاصمه أي انتماءات لمحاور إقليمية أو دولية، فلم تدخل مرّة في محاور»، بحسب الإعلامي أنطوان سعد.

 

 

يفوت هؤلاء «فارق بسيط» أنّ مُجرّد التمييز بين مواقف وطنية وأخرى غير وطنية هو بحدّ ذاته موقف، وانحياز موارنة ذاك اللبنان إلى «كنيسة رومية» ضدّ «كنيسة القسطنطينية» في الـ1439، ورفع الأعلام الفرنسية على بعض الأديرة عوض الأعلام الانكليزية في الـ1840، والمُطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان، والإصرار على زيارة سوريا في الـ2013، وزيارة الأراضي المحتلة في الـ2014، وطلب «الصداقة» والحماية من «المجتمع الدولي»، والموافقة على طرد مواطنين من بيوتهم في أملاك البطريركية لاستبدالها بشجر الأفوكا، كلّها مواقف… لا بل إنّ الكنيسة التي قرّرت نقل الكرسي البطريركي في القرن التاسع عشر من وادي قنوبين (شمال لبنان) إلى بكركي (في عاصمة كسروان) «لمدّ نفوذ الكنيسة إلى الأجزاء الجنوبية من جبل لبنان» (فوّاز طرابلسي – تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف)، كانت تُعلن بنفسها أنّها لا ترضى أن تبقى مُحايدة.

يندر أن تكون قد مرّت محطّة تاريخية، ولم يكن لـ«الجماعة المارونية» مشورة. في كتابه، يُخبر فواز طرابلسي عن البابا غريغوري الثالث كيف طلب من الموارنة في «لبنان» الانضمام إلى فخر الدين في حروبه اللاحقة، «وفي عام 1611، أرسل فخر الدين رئيس أساقفة قبرص المارونية، جرجس بن مارون، لعقد تحالف ضدّ العثمانيين مع توسكانا والكرسي الباباوي». على الرغم من أنّ الموارنة حظوا خلال الحكم العثماني بمجموعة من الامتيازات، ونالوا وعداً بالحفاظ على إمارة مارونية تتمتع باستقلال ذاتي. وكان على رأس الذين عادوا وانحازوا إلى جانب العثمانيين، البطريرك يوسف حبيش (1832 – 1845)، الذي أصبحت الكنيسة في عهده «قوة اقتصادية واجتماعية وثقافية يُحسب لها حساب»، يُخبر طرابلسي مُضيفاً كيف أنّ حبيش التفّ حول «بشير الثالث خشية أن يُعيَّن حاكم مُسلم مكانه، وحاول لمّ الطائفة حول برنامج عمل مشترك». ولكن دعم بشير الثالث لم يكن اقتناعاً به. فكما يروي كمال الصليبي في كتابه «تاريخ لبنان الحديث»، أصرّ البطريرك على أن يكون أمير لبنان مارونياً، رافضاً اقتراح القنصل الفرنسي تعيين الأمير الماروني حيدر أبي اللمع، مُلحّاً على بقاء بشير الثالث، «آملاً في ازدياد الحالة سوءاً على يده، ما قد يُرغم العثمانيين على إعادة بشير الثاني». حبيش كان «مُتمرّداً»، لم يقف على الحياد يوماً، وهو الذي دعا «النصارى إلى التمرّد على السلطات القضائية التي ما زالت في أيدي الزعماء الإقطاعيين ثم القيام هم أنفسهم بممارستها»، بحسب كتاب «تاريخ لبنان الحديث» للصليبي. على طرف نقيض منه وقف البطريرك يوسف الخازن (1845 – 1854)، مُتخذاً موقفاً إلى جانب المشايخ ضدّ الفلاحين. أما حين وصل بولس مسعد إلى سدّة البطريركية (1854 – 1890)، فانحازت الكنيسة علناً إلى جانب الفلّاحين، فالبطريرك كان «شديد التعصّب لدينه ومُبغضاً لرجال الإقطاع»، يقول الصليبي.

في الـ1919، خاض البطريرك الياس الحويك (1899 – 1931) حراكاً مُعاكساً للشريف فيصل (في مؤتمر الصلح) الذي نال تأييداً أميركياً وبريطانياً. فلجأ الحويك إلى فرنسا طالباً منها توسيع حدود لبنان وتأمين استقلاله بحمايتها، على أن يقبل اللبنانيون بسلطة الانتداب والتعاون معها إلى حين تحقيق الاستقلال. بقي الحويك يلعب دوراً سياسياً في البلد، من دون أن يقف على الحياد. في الـ1926، امتعض من تعيين أرثوذكسي رئيساً للجمهورية بحجّة أنّ الموارنة هم الأكثر عدداً، ولم يرضَ على انتخاب شارل دبّاس إلّا حين طمأنه المفوض السامي هنري دو جوفنيل بأنّ خلف دبّاس سيكون مارونياً.

على الرغم من «الشُهرة» التي حَظِي بها الحويك، ولكنّ البطريرك أنطوان عريضة (1932 – 1955) تفوّق عليه بالدور والعلاقات السياسية. في كتاب «المتاهة اللبنانية – سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918 – 1958)» لرؤوفين أرليخ، يُذكر كيف زار الدبلوماسي الصهيوني إلياهو إيلات البطريرك عريضة بعد تنصيبه، «ونسج معه علاقات وطيدة استمرت في الثلاثينات والأربعينات بين البطريرك والقيادة الصهيونية في القدس». كان عريضة «صديقاً» لهذه الحركة، «من دون أن تفضي محاولة تجنيده إلى نتيجة». وأساس انفتاح الصهاينة على عريضة كان دفع الكنيسة باتجاه «حلف الأقليات» في الشرق، ووجودها في معسكر «الرؤية الانفصالية» مع إميل إده، في مقابل الكتلة الدستورية وبشارة الخوري التي أيّدت قيام لبنان المستقل ضمن حدود الـ1920 والعلاقات الجيدة مع المحيط العربي.

هذه كانت بداية «لا حيادية» عريضة، الذي ما إن انتصرت «حكومة فيشي» حتّى بدأ بنسج علاقات مع إيطاليا الكاثوليكية التي نُظر إليها كبديل مُناسب من فرنسا. كان عريضة يُبدي رأيه في معظم الشؤون السياسية، هو الذي دفعته خصومته لبشارة الخوري إلى الموافقة على ترشيح الشيخ محمد الجسر إلى الرئاسة، حين أُقنع بأنّ الترشيح مناورة للانقلاب على الخوري.

في 30 أيار 1946، «وُقّع في القدس اتفاق بين الوكالة اليهودية والكنيسة المارونية للاعتراف بمطالب الشعب اليهودي إقامة دولة مستقلة في أرض إسرائيل وإقامة دولة مستقلة في لبنان، ذات طابع مسيحي، ومن المزمع للكنيسة أن تتسلم فيها السلطة»، كما يروي رؤوفين أرليخ، مُضيفاً أنّ ضعف الكنيسة في الأربعينيات ومعارضة الكتلة الدستورية لها منعت تطبيق الاتفاق. في تلك الفترة، انحاز البطريرك عريضة بالكامل لصالح صاحب أحد المصانع الاسرائيلية، الذي «قدمت له دير قديم في الدامور شيّد فيه مصنعاً، وأعطاه عريضة ضمانة مكتوبة بأنّه في حال حصول نزاع اقتصادي بينه وبين الحكومة اللبنانية فإنّه سيتصدّى شخصياً لحلّ النزاع لمصلحة الرجل».

 

لم تكن البطريركية ستُراكم إرثها من دون مواقفها السياسية وعلاقاتها الخارجية

 

 

بدأت «لا حيادية» البطريرك بولس المعوشي (1955 – 1975) مُبكراً، حين انضمّ إلى صفوف المُعارضين لعهد الرئيس كميل شمعون، وتلقّى الاتهامات بأنّه «مؤيّد للسياسة الناصرية». تدخّله الكبير في السياسة، أدّى سنة 1959 إلى قطيعة بين المعوشي والرئيس الجديد فؤاد شهاب. تحوّل إلى لاعب في الانتخابات النيابية، يؤيّد حلف شمعون – الجميّل – إدّه على حساب «حلف النهج». ولا تزال تُذكر حادثة مُحاولته إقناع النائبة الراحلة نهاد سعيد الانسحاب من انتخابات الـ1965 لصالح ريمون إدّه، فتحدّته مُصرّة على خوضها: «جبت 6 ولاد للطايفة، فيك تخبرني إيش جبلها إدّه؟». في الـ1970، أسهم المعوشي في إسقاط المرشح الرئاسي الياس سركيس، مُعارضاً الوجود الفلسطيني المُسلح واتفاق القاهرة.

تُعدّ تجربة نصر الله صفير (1986 – 2011) الأكثر التصاقاً بالذاكرة اللبنانية، لأنّها جزء من التاريخ المُعاصر. نشر سامي بارودي وبول طبر، في الـ2009، ورقة بحثية عن «العلاقات بين الكنيسة المارونية والدولة في لبنان ما بعد الحرب: 1990 – 2005»، عدّدا فيها محطات من «لا حيادية» صفير، بدءاً من تأزّم علاقته بـ«العماد ميشال عون» الذي كان يُريد في الـ1986 الترشح لرئاسة الجمهورية، فيما فضّل صفير مُرشحاً «توافقياً مقبولاً من المسلمين والمسيحيين والسوريين والأميركيين». وبعد المعركة السورية ضدّ القصر الجمهوري، «عبّر صفير عن ارتياحه لانتهاء «الحالة الشاذة» التي نشأت بوجود حكومتين». بكركي مع صفير دعت إلى مقاطعة الانتخابات النيابية سنة 1992، وصعّدت من مواقفها حتّى قاطع الرئيس الياس الهراوي قداس عيد الفصح سنة 1994، بسبب رفض صفير التمديد له.

 

يرى فريد الخازن أنّ تبنّي الحياد يجب أن يُطرح من قِبَل الدولة

 

وبعد أشهر من «شهر العسل» بين بكركي والرئيس الجديد إميل لحود، بدأت الخلافات «لدعم الأخير عمليات حزب الله ضدّ «جيش لبنان الجنوبي» وإدانة صفير سقوط أبرياء، وموقف لحود من الوجود السوري في لبنان». قادت بكركي جبهة «قرنة شهوان» سنة 2000، التي مهّدت لانسحاب الجيش السوري، وبات رمزاً سياسياً مُستفيداً من خلوّ الساحة من «الزعماء المسيحيين». وفي الـ2003، أعلن صفير رفضه للغزو الأميركي للعراق. تتالت المواقف السياسية التي اتخذها، وصولاً إلى انتخابات الـ2009، حين حذّر في حديث إلى مجلة «المسيرة» القواتية من أنّه «إذا انتقل الوزن إلى 8 آذار، و14 آذار لم يعد لها وزن، فإنّ هناك أخطاءً سيكون لها وزنها التاريخي على المصير الوطني».

يقول السفير فريد الياس الخازن إنّ الكنيسة في السنوات السابقة لم يكن عنوانها الحياد، «بل الدفاع عن سيادة البلد وانسحاب الجيش السوري. ولا مرّة كان الحياد مطروحاً كما هو اليوم، ولم نعرف حتّى الآن أكان المطلوب حياداً أم تحييد لبنان». يعتبر نائب كسروان السابق أنّ الحياد «له طابع قانوني، وبحاجة إلى توافق داخلي وخارجي، فهو يرتبط بشكل النظام السياسي ككلّ». انطلاقاً من هنا، يرى الخازن أنّ تبنّي الحياد «يجب أن يُطرح من قِبَل الدولة».