Site icon IMLebanon

لنعترف يا أبناء مارون: فشلنا في السياسة ونجحنا بالقداسة!

 

 

لو أراد الله أن تعود اليوم، يا مار مارون في عيدك، لتتفقّد أبناءك وكنيستك وشعبك، فهل ستتفاجأ برؤيتهم يتنكّرون لمقوّمات الروحانية النسكية التي أسستها على الشهادة للمسيح المصلوب والقائم من الموت بحياة زهد وصلاة وسهر وصمت عميق وانفتاح على الله وعلى الإنسان؟ أو أنّك تتفهّم وضعهم الكارثي وتشجعهم ليُقلعوا عن يأسهم فتدعوهم للعودة إلى أصالة دعوتهم في القداسة والنهوض من جديد بشهادة مسيحية حقة؟

 

ماذا حلّ بكم يا أبناء مارون حتى تتراجعوا عن كل التزاماتكم وثوابتكم التاريخية وعن مبررات وجودكم في هذا الشرق، أي الشهادة للمسيح المصلوب بالحرية والانفتاح والانتشار المستمرَّيْن. ماذا حلّ بكم يا أبناء مارون حتى تدمّروا وحدتكم وتتنكّروا لمركزيتكم البطريركية التي كانت وما زالت ضمان وجودكم واستمراريتكم في الشرق كما في الغرب؟

 

تذكّروا أنّ آباءكم وأجدادكم هم الذين كانوا يرفضون مقولة الشعب المختار وفكرة التعالي على الآخرين، فخالطوا كلّ الشعوب حاملين إليها رسالة المسيح في معرفة الحق والحقّ حرّر من تحرّر منهم من نير العبودية والظلم. هم الذين، بانفتاحهم على الغرب، نقلوا الحداثة إلى الشرق، وبانفتاحهم على الشرق وعلى الإسلام بصورة خاصة، أسهموا في إيقاظ الشعوب على حقهم في الحرية والعدالة والمساواة، وأدخلوا عائلات مسلمة إلى المارونية بقوة شهادتهم للمسيح.

 

هم الذين صنعوا من جبل لبنان معقلاً للحريات، فاستقبلوا فيه كل مضطهَدٍ وكل توّاق إلى الحرية في هذا الشرق. هم الذين حققوا إنجازاً تاريخياً نادراً في تاريخ العلاقات بين الشعوب، إذ تجرّأوا في بداية القرن العشرين، بقيادة البطريرك الياس الحويك مع إخوةٍ لهم مسيحيين ومسلمين، على خوض تحدٍّ كبير تجسّد في تجربة إجتماعية فريدة من نوعها، هي الوطن اللبناني، الوطن الذي يجمع أبناء الديانات والطوائف والجماعات المتعددة في الحرية والمساواة. كان لهم الدور الأفضل لتأسيس لبنان وطن الحريات والعيش الواحد، ولكنهم لم يحتفظوا به لهم وحدهم. هم الذين في انتشارهم العالمي، تكيّفوا مع شعوب البلدان التي استوطنوها وامتزجوا بها وبرعوا في الثقافة والقداسة.

 

بعد هذا كلّه، لماذا أنتم، يا أبناء مارون اليوم، محبطون ويائسون ومشرذمون؟ هل لأنكم تعتقدون أنكم فشلتم بعدما سلّموكم زمام السلطة السياسية في لبنان الكبير والجمهورية اللبنانية الأولى؟ أو لأنكم تنكّرتم لمبادئكم الإنجيلية والنسكية وأصبحتم تجّارًا في كل شيء، بعدما كنتم، طوال مسيرتكم التاريخية، شعباً يتحمّل الصعوبات والمآسي ويعيش بحرية وكرامة في الفقر والتقشف والحرمان؟ أو لأنكم، بعد تأسيسكم «الوطن الرسالة»، على حدّ قول القديس البابا يوحنا بولس الثاني، تركتموه يصبح مغارةً للّصوص يعتاش من التجارة الرخيصة والخوّة والبرطيل؟ أو لأنكم، بعد عيش الرخاء والبحبوحة، تنكّرتم لوحدتكم فانقسمتم وتشرذمتم، فضعفتم واستقوى عليكم الغرباء الذين داسوا أرضكم المقدسة واقتسموا ما كنتم قد تعبتم في الحصول عليه؟ أو لأنكم، بعد حرب السبع عشرة سنة، وبعد التهجير المذهل والمخيف، فقدتم الأمل، فرُحتُم تبيعون أرضكم بأرخص الأثمان في سبيل أن تتاجروا بها أو أن تهاجروا منها لتستوطنوا في بلدان أخرى؟

 

لا، يا أبناء مارون، لا تيأسوا ولا تتخاذلوا ولا تستقيلوا من مسؤولياتكم ولا تتقوقعوا ولا تهاجروا يأساً! أنتم أبناء الرجاء. أنتم المؤتمنون على لبنان وعلى سيادته واستقلاله ووحدة شعبه وحريته، لا تهتّموا إذا صرتم خارج السلطة! فهذا شرف لكم لأنكم كنتم ترفضون السلطة والتسلّط على مدى تاريخكم، وكنتم أقوياء لأنكم كنتم خارج السلطة وخارجين عليها! لا تخافوا، يا أبناء مارون، إذا كنتم فشلتم في السياسة، فقد نجحتم في القداسة! لا تخافوا لأنكم أقوياء بكنيستكم، كنيسة المسيح على اسم مارون، لأن مارونيتها الأصيلة هي أقوى بكثير من مارونيتها السياسية.

 

أنتم أقوياء بكنيستكم لأن مسيرة القداسة فيها هي إياها ولم تتغيّر منذ مار مارون وتلاميذه في جبال قورش وجبال لبنان، إلى مار يوحنا مارون، إلى البطاركة والنساك في وادي قنوبين، إلى الحرديني وشربل ورفقا والإخوة المسابكيين، وغيرهم الكثيرين من أبطال وشهداء، الذين تقدّسوا في ظروف الحروب والاحتلالات والاضطهادات، وهم يشهدون اليوم في العالم كلّه لقداسة كنيسةٍ وشعبٍ على أرض مقدسة. تعالوا نقوم بفحص ضمير عميق وفعل توبةٍ صادق، فنعود إلى أنفسنا وإلى ربّنا ونلبّي دعوتنا النسكية إلى القداسة، وننقل روحانية قنوبين، كما قال لنا يوماً (سنة 1994) رئيس أساقفة باريس الكارينال جان ماري لوستيجيه، إلى قلب بيروت وباريس ونيويورك ومونتريال وسان باولو وسيدني. تعالوا ننطلق برسالة أممية متجدّدة باسم المسيح لنقدّس العالم بنكهة مارونية!

 

(*) راعي أبرشية البترون المارونية