لم تكن مواجهات ساحة الشهداء إلا صورة مصغّرة عن الهوة الكبرى بين الشعب والطبقة الحاكمة، إذ إن هذه الطبقة فقدت شرعيتها الشعبية ودخلت في مواجهة مفتوحة لتسيير قراراتها الموجعة على الشعب بالقوّة.
نعم، إنها ساحة الشهداء، ساحة الشعب المنتفض والثائر على وضعه، والشاهدة الأكبر على معاناة العاصمة وكل لبنان وحتّى الشرق، ساحة علّق فيها الأتراك المشانق في 6 أيار 1916 أي منذ 104 سنوات، وها هي السلطة الحاكمة تُعيد تعليق المشانق للشعب من خلال شنقه اقتصادياً ومالياً ومعيشياً واجتماعياً، من دون شفقة أو رحمة.
إنها ساحة الشهداء الشاهدة على ازدهار الوطن في فترات سابقة، وحروب ودمار طوال الوقت وكأن قدر اللبناني أن يبقى يعيش الخوف على المصير والقلق من الآتي.إنها ساحة الشهداء أهم الساحات اللبنانية، وليست النقطة الفاصلة بين ألمانيا الغربية والشرقية، وإن كان البلد قدّ قُسّم سابقاً بين شرقية وغربية، فلم يرق للثوار ارتفاع جدار العزل والفصل وسط العاصمة مذكراً بجدار برلين، فهبّوا في الأمس محاولين إسقاطه ونجحوا في إزاحة بعض بلوكات الباطون من أماكنها لكنّ تدخّل أجهزة السلطة كان سريعاً وحسم الموقف، وكيف لا تتدخّل ومعظم تلك المؤسسات تعمل في خدمة السياسيين، ومن يُوظّف فيها يجب أن يحوز على واسطة فلان أو علتان من حيتان السياسة.
نزل الثوّار في 17 تشرين من أجل هدم كل الجدران التي بنتها الحرب الأهلية وأكمل أهل السياسة بعد “الطائف” تشييدها، ليتفاجأوا بعد أكثر من 100 يوم على انطلاق ثورتهم بأن الجدران النفسية تحوّلت إلى جدار إسمنتي يشبه نفسية أهل الحكم ويزنّر مجلس النواب، لذلك كان سؤال الثوّار أمس في ساحة الشهداء: هل تريدوننا أن نتفرّج على هذا الجدار أو نتصرف وفق ما تفرضه وطنيتنا ونعمل على هدمه؟
لم تكن الحجارة التي تُطلق من أيدي الثوّار في ساحة الشهداء موجّهة إلى القوى الأمنية فحسب، بل إن إبن بيروت وعكار وطرابلس والشمال وكل من حضر إلى الساحة كان يرمي مع كل حجرة المآسي التي يعانيها، مآسي الفقر والحرمان، أوجاع غياب الخدمات الطبية في مناطقهم، إهمال الدولة لكل القطاعات الإنتاجية، والأهم من كل هذا اعتبارهم مواطنين درجة عاشرة في حين أن الزعماء وعائلاتهم وحاشيتهم يتنعمون بخيرات الوطن ويتلذذون بما نهبت أيديهم.
الثورة التي تشقّ طريقها وإن بدرجات متفاوتة ليست ثورة سياسية تحت عناوين إيديولوجيّة، بل إنها ثورة اجتماعية بكل ما للكلمة من معنى، معها سقطت كل الخطوط الحمراء، ويستكمل مسلسل كسر الحرمات، إذ إن مواكب النواب والوزراء التي كانت “تعربش” على الناس باتت تدخل مجلس النواب بحماية سرايا وألوية أمنية، ومنها من يتسلل في الليل مثل الخفافيش، وآخرون من أصحاب السعادة والمعالي يختبئون من شعبهم.
وعلى رغم أن الطريق المؤدية من الصيفي إلى جريدة “النهار” لم تشكّل منفذاً أساسياً للنواب والوزراء للتسلل إلى المجلس، إلا أنها شكّلت ساحة مواجهة فعلية منذ الصباح الباكر على رغم الصقيع، والمقصود من تلك المواجهة عدم إراحة القوى الأمنية التي تحمي النواب والوزراء الذين يتهمهم الشعب بالفساد، وبالتالي فانه كان من الضروري أن تشتعل تلك الجبهة ليظهر الجميع على حقيقته، وبأن السلطة مصرّة على القمع، وتضع الفقراء في مواجهة بعضهم البعض بينما نوعية سيارات النواب تكشف الفجور المالي الذي وصلت إليه البلاد.الغاز المسيل للدموع، خراطيم المياه، الضرب بالحجارة، أسلحة استعملتها القوى الأمنية لردع الثوّار الذين توجهوا منذ الليل إلى بيروت، والنتيجة سقوط عدد كبير من الجرحى وكأن المكان تحوّل إلى ساحة حرب بين شعب يطالب بحقوقه وسلطة تريد قمعه وخنقه. والملفت للإنتباه، أن القوى الأمنية استعانت ببركة الشهيد سمير قصير قرب “النهار” لتعبئة خراطيمها من أجل رشّ الثوّار بالمياه، في حين أن قصير كان قد تحدّث عن ربيع بيروت الذي ينتظره الثوّار ليزهر محاسبةً وعدالة اجتماعية ودولة حق وقانون ومساواة.لم يأبه الثوّار لكل أدوات القمع، إذ كانوا يردّدون “ميتين وميتين، ودولتنا حولتنا لشهدا وحطت بوجنا الأجهزة الأمنية يلي هني شهدا متلنا”، وبالتالي، فان هذا الأمر يفسّر مدى عدم مبالاة الشباب وخوفهم من العنف المفرط الذي استعمل بوجههم، فلا خيار أمامهم إلاّ الاستمرار بالثورة حتى سقوط الحكومة ومجلس النواب وكل منظومة الفساد الحاكمة.
يختصر شعار “دعوس يا شعبي دعوس عالحكومة وعالمجلس”، كل ما حصل بالأمس في ساحة الشهداء والطرق المؤدية إلى ساحة النجمة، إذ انّ الشعب الجريح لم يرَ بارقة أمل من حكومة حسّان دياب، ومن نواب ووزراء يخافون مواجهة الشعب، وبالتالي فإن خيار المواجهة بات مفتوحاً وكل الاحتمالات واردة، والرجوع إلى الوراء هو الموت بحدّ ذاته.