Site icon IMLebanon

قبح الكلام سلاح الأرذال

 

استوقفتني حادثة الهرج والمرج التي تخللت الحلقة الفائتة من برنامج «صار الوقت» الذي يعده ويقدمه الصحافي مارسيل غانم ويعرض على فضائية محطة الـ (MTV)، والتي استضاف فيها كلًا من وئام وهاب «صحافي ووزير سابق» والصحافي سيمون أبوفاضل كمحاورين، وقد تخللها بذاءة كلام وشجار وعراك بالأيدي ورفس بالأرجل وانتهت باعتذار أحدهما من صاحب المحطة والبرنامج والمشاهدين عما فعله صحبه. الغريب في الأمر أن هذه الحادثة رغم بشاعتها كادت أن تمر مرور الكرام فيما لو استثنينا بعض التعليقات التي تم تداولها تعقيباً على مقطع الفيديو الذي وثق الحادثة.

هذه الحادثة السياسية – الإعلامية ليست بيتيمة ولا عرضية بل متكررة إلى حد أنها أصبحت إحدى صور ظاهرة إعلامية مقيتة مقلقة، تفشت خلال العقدين الأخيرين وتكررت صورها على شاشات معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في لبنان وبعض من الفضائيات العربية، وهي من دون أدنى شك ظاهرةٌ منفرةً ومثيرةٌ للإشمئزاز ومدعاةٌ للخجل، لذا اقتضى التوقٌف عندها. ويتوجب التفكير فيها مليًا للوقوف على أسبابها، وكيفية التعامل معها والتصدي لمن يتسبب بها أو يسهلها، تمهيداً لقطع دابرها. لأنها لا تليق بنا كلبنانيين ولا كعرب ولا كبشر من المفترض أن يتحلى الفرد منا بالحد الأدنى من الأخلاقيات والقيم الانسانية.

بعيداً عن الأشخاص المعنيين بالحادث المنوه عنه، نرى إن هذه الظاهرة» أي «استسهال تفوه الضيوف المدعوين للتحاور بالبذاءات والألفاظ الهابطة والأقوال الخبيثة، تنطوي على قذف أو سب أو ابتذال أو استهزاء أو تحقير للشركاء في الحوار أو استخفاف بعقول المستمعين. هي ظاهرةٌ دخيلةٌ على الأدبيات السياسية والصحافية في لبنان، ونادراً ما عرفنا كما لم ينقل إلينا عن أسلافنا شيئاً مشابهاً لما نشهده منذ قرابة عقدين من الزمن، حتى خلال الحرب الأهلية، السيئة الذكر، امتاز سياسيونا وصحفيونا بأدبيات رفيعة، أقل ما يقال فيها أنها لم تخرج عن أدبيات التخاطب الآدمي. الأمر الذي يدعونا لمناشدة المعنيين بالإعلام إلى رصد أسباب هذه الظاهرة في مجتمعاتنا، والعمل على محاصرتها وقطع دابرها قبل فوات الأوان، لأن الفحش في القول وبذاءة اللسان مرضٌ خطيرٌ ينذر بشر مستطير.

الوقوف على نشأة هذه الظاهرة في لبنان يدعونا للبحث في الأسباب الموضوعية الشخصية التي توفرت لدى الضالعين فيها (باعتبارها سلوكيات منحرفة تنطوي ضمن إطار توصيف جرمي يعاقب عليه القانون)، والذين سرعان ما يتبين أن عددهم لا يتجاوز الدزينة (12)، ويجمع بينهم قاسمٌ مشترك يتمثل في كونهم نشأوا صبيةً خلال الحرب، ولكنهم ترعرعوا برعاية بعض من ضباط المخابرات الذين كلفوا من قبل أسيادهم بتسيير الحياة السياسية في لٌبنان، أولئك الضباط الذين تمت تصفيتهم الواحد تلو الآخر، أمسوا في دنيا الحق (وكما يقال: ولا تجوز عليهم سوى الرحمة، ولكني أضيف: بقدر ما يستحقون منها) لأنهم يتحملون مسؤولية تشويه العلاقات اللبنانية – السورية وتخريبها، كما تبعات كل ما نتج عن سلوكياتهم من فساد وإفساد، نجم عنها مضارٌ بليغةٌ على البلدين الشقيقين المتجاورين، وباعتقادي أن قيادتهم السياسية لم تكن على دراية بحجم فسادهم وإساءة استغلالهم للسلطة، وفوجئت بها مؤخراً في معرض التحقيقات والمحاكمات ذات العلاقة باغتيال دولة الرئيس رفيق الحريري، حيث أنكشف بعضٌ من سلوكياتهم الاستبدادية وأميط اللثام عن ثرواتهم الطائلة التي جمعوها من اختلاسات مصرفية وخوات على السياسيين والمتمولين اللبنانيين الطامحين إلى مناصب وزارية، أو مقاعد نيابية، أو وظائف فخرية.

غلمان مخابرات تستشف تفاهة عقولهم «بالقياس» من بذاءة ألسنتهم. تمت تنشئتهم ومن ثم ترويضهم واستغلالهم لتطويع سياسيي لبنان المناوئين لتوجهات معلميهم كما المعارضين لسياساتهم، وذلك بالتهجم على السياسيين المرموقين وكل من لم يرق لمشغليهم بأقسى التعابير التي تنم عن بذاءة الكلام وسوء التربية ومستوى عال في الوقاحة، وقلب الحقائق وفبركة التهم وشن حملات مسعورة بغرض تشويه السمعة وتضليل الرأي العام. أما الأسوأ من كل ذلك فيكمن في تفاخرهم بسوء كلامهم، وسفاهتهم، وقبح مصطلحاتهم، وخبث منطقهم، وأكاذيبهم المدبرة، وعرضها بأساليب هابطة وعبارات نابية وألفاظ بذيئة، هي في الواقع تضر بصاحبها أكثر بكثير مما تؤذي الموجهة له أو سامعيها. وفاتهم أن الشجاعة تكمن في قول الحق وإراحة الضمير، أما الفصاحة ففي اللسان الرزين.

كان أجدى بهم مسك اللسان عن بذاءة القول ومقارعة خصوم معلميهم بالمنطق والحجة، والامتناع عن أساليب التهجم والتهويل والتخوين وتوجيه الإهانات، إلا أنهم استساغوا اللعبة القذرة التي قامت على توجيه الشتائم والتطاول على المحرمات والتعرض للكرامات بتعابير ممجوجة تستعمل فيها أقبح الألفاظ وأردى النعوت، واعتبروها فرصةً لهم لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية رخيصة لقاء التعرض لكبار القوم والتهجم عليهم في شتى المناسبات، وعبر وسائل الإعلام وبخاصة عبر شاشات الفضائيات، وقد ذاع صيتهم وأصبحوا من مشاهير الإعلاميين لتسابق وسائل الإعلام على استضافتهم استرضاءً لمعلميهم، وتجنباً لألسنتهم اللاذعة، فوسعوا من نطاق أهدافهم، بحيث لم يكتفوا بالتطاول على القامات الوطنية بل تطاولوا على دول شقيقة وأخر صديقة.

وفق المنطق السليم، كان من المفترض أن تخبو تلك الأصوات الناشذة، مع انسحاب معلميهم، إلا أن شبحهم ما كاد يتوارى عن الأنظار ليطل مجددًا على وسائل الإعلام ولو بوتيرة أقل، ولكنهم احتفظوا بذات الأسلوب بنبرتهم العالية وتعابير القدح والذم وتوجيه الإهانات وعرض البطولات الوهمية وتحريف الحقائق و… وكأنا بهم قد التجأوا إلى حاضنة بديلة محلية أو إقليمية، توفر الغطاء والتمويل الكفيلين باستنهاض هممهم وإطلاق العنان لأبواقهم من جديد.

أعود لأكرر أن كلامي لا يستهدف ضيوف الحلقة الفائتة لبرنامج «صار الوقت»، إنما يسلط الضوء على ظاهرة التحاور الهابط ككل، والتي أرى أنه صار الوقت للإمتناع عن استضافة أصحاب الأساليب المكروهة والألفاظ المقيتة والأمثال الرذيلة والفبركات المكشوفة… الخ، وصار الوقت لكي يعي الجميع أن الفضاء الإعلامي للمرئي والمسموع،  وإن أجيز لبعض المحطات بالبث عبره، إلا أنه ملكٌ للمجتمع وبكافة أفراده وعلى قدر المساواة، ولا يمكن السماح بإساءة استعماله وتفلته، لأنه فضاءٌ ينبغي أن يكون مقوننٌ وممسوكٌ، أو بأقل تقدير يمكن مسكه من قبل السلطات الرسمية، ووضع ضوابط وطنية وأخلاقية، على خلاف ما هو شائعٌ عبر وسائط التواصل الاجتماعي، كما صار الوقت لكي يعي المسؤولون الرسميون وفي طليعتهم وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع «الحاضر في تعويضات أعضائه المرتفعة والغائب عن دوره الوطني»، وأنه لم يعد من المقبول أن يبقوا مكتوفي الأيدي متفرجين تجاه كل ما نشهده من تًجاوزات أخلاقية وترويج للفجور ولسلوكيات منحرفة، والتعرض للغير والتطاول على الكرامات من دون وجه حق، ومن دون أية مساءلة ومحاسبة وعقاب متناسب مع خطورة تلك الأعمال على المستويين الوطني والفردي.

وكذلك صار الوقت لكي يعي أولئك السفهاء أن أشر الناس من تجنبه الناس اتقاءً لفحشه، وأن وسائل الإعلام وبخاصة برامجها السياسية ليست للتهريج، ولا محلاً لإطلاق النكات المخدش للحياء، وليست هي ساحةً للفضفضة وإطلاق الشتائم، وبالتأكيد هي ليست حلبةً للصراع والتضارب، وعليهم أن يدركوا أن لجلسات التحاور عبر الفضائيات آدابٌ تحكمها، ذلك أن الفضائيات الوطنية ولو خاصة هي تحمل اسم لبنان، وهي مسؤولةٌ وطنيًا عن بلورة صورة طيبة عنه و عن شعبه، تدفع بالمشاهدين لتكوين فكرة راقية عن المجتمع اللبناني لا العكس، وعليهم أن يٌقلعوا عن كل تلك الحماقات، لأن السقوط في مستنقع الرذيلة وإن كان أمراً ممكنًا فإن النهوض والخروج هو واجبٌ أخلاقي واجتماعي. وصار الوقت لأن يعي مقدمو البرامج السياسية والحوارية بخاصة أن إدارة الحوار مسؤولية، لأنهم ليسوا في سيرك ولا في حلبة لصراع ثيران ولا لعبة كيغبوكسينغ (Kickboxing)، لذا عليهم اختيار المحاورين باتقان، وكذلك المدعوين كي لا يتصرفوا كثيران هائجة يصعب لجمها،

وأختمً بضرورة إقرار قانون عصري موحد للإعلام ينظم كافة وسائل الإعلام (مكتوب، مسموع، مرئي ومسموع، ورقي، رقمي، عبر الفضائيات أم عبر وسائط التواصل الاجتماعي)، ويضمن رقي هذا القطاع كسلطة مؤثرة بالرأي العام، وإن لم تكن مكرسةً دستوريًا، ويوازن ما بين ضمان الحريات الإعلامية من جهة، ومن جهة أخرى صون الوطن وكفالة الحقوق والكرامات والآداب المجتمعية والفردية.