IMLebanon

بحر المتوسط وبرّ المجر

أبلغ الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف الرئيس جمال عبد الناصر أن موسكو تعارض مشروع الوحدة المزمعة بين مصر وسوريا. وقرر الرئيس المصري أن يذهب إلى الكرملين بنفسه ليعرض وجهة نظره. قال إن السوريين متحمسون جداً لقيام “الجمهورية العربية المتحدة”، والشارع السوري فائر بهذه المشاعر. فقال له الفلاح الأوكراني، يا صديقي العزيز، المؤسسات لا تُبنى على المشاعر. والسوريون متفوّقون اقتصادياً عليكم. وهم تلقّوا علومهم في المدارس الفرنسية، وماذا تُعلّم المدارس الفرنسية؟ الحرية. دعكم من هذه المغامرة.

انفضّت الوحدة العام 1961 في مثل هذا الشهر. ولكن ليس قبل أن يتعلّم النظام العربي درساً مهماً: الشرط الأول لقيام الحكم هو إلغاء الحرية. وخرجت من كل ثكنة دبابة يبرز منها شاربا ستالين. وأُغلقت الصحف. وشُحنت الإذاعات بـ”البلاغ الأول” ومُلِئت السجون بالمثقفين، بدءاً بالشيوعيين. وأُغلق النقاش تحت بندين: سياسياً، التخوين، وفقهياً التكفير. وعندما وصل الملازم معمر القذافي إلى السلطة مُرتعداً من منافسة رفاقه السابقين من القوميين والبعثيين، كان أول شعار رفعه في وجوههم: من تحزّب خان! وأغلق الثكنة دونه.

بين غرْقى المتوسط في هذه المحنة البشرية التاريخية، ليبيون لم يوفّر لهم أحد أغنى بلدان الأرض، الكفاية من كرامة الحياة. نهبت “ثورة الفاتح” كل شيء، وقضى على الباقي الثوار على ثورة الفاتح. نسيت الثورات العربية وهي منهمكة في تحرير المواطن والزحف على إسرائيل، أن تترك له كسْرة من الخبز وفُتات من كرامة.

لذلك، كان هذا الزحف الذي لا يصدّق: الشرق العربي منقلب على أوروبا، ذليلاً مُهاناً وجائعاً ومُستجدياً اللجوء. لا شيء يُرجعه ولا شيء يُناديه. كل ما يريد هو الخروج. كل ما يُريد هو وطن آخر، لا يقتله ولا يجوّعه ولا يسلبه حريته. فات الذين تعلّموا درس إلغاء الحرية، أن يلغوا معها الإرادة. إنها لا تُلغى في أي حال.

كتب المفكر عبدالله القصيمي العام 1963 في “العالم ليس عقلاً” أن “عدواً متوحشاً ضارياً ليغزو العالم اليوم ويغتال كرامته وذكاءه وحريته وكبرياءه، ويُضعف فيه جميع التعبيرات الإنسانية، ذلك هو الحكم الوطني المطلق المتعاظم القوة والبطش، وما يعبئ من أجهزة دعائية ضخمة حديثة شديدة التوتر والضجيج والبذاءة، ومن أسلوب بوليسي حاد الفتك، والتعصّب والغرور والغباء والخوف والإذلال”.

طُبعت كتب القصيمي خارج العالم العربي، فلا أحد لا يخاف نشرها: رجل أهدر دمه المحافظون وأنكره “الثوار” وتعرض للرموز الأدبية المقدسة، حتى المتنبي الذي قال إنه “كان فحشاً نفسياً واخلاقياً وإنسانياً ولغوياً”. ورأى في مديحه الدائم لنفسه غروراً لا يغتفر، ورأى في قصته مع كافور ذروة الفحش في المديح وفي الهجاء. ففي تقربه قال فيه:

أبا المسك هل في الكأس فضل أناله

فإني أغني منذ حين وتشرب

فأن لم تنط بي ضيعة أو ولاية

فجودك يكسوني وفضلك ارحب

ولما لم يعطه كافور ما طلب، هجاه قائلاً:

لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد

هل من مثال حديث في هذا الباب: “الابراء المستحيل” الذي نفضه أصحابه نفضاً على باب معركة الرئاسة والعشاء في “بيت الوسط”. ثم تمت العودة إليه. بالسهولة نفسها ومن خلال البرامج التلفزيونية نفسها: أبا المسك فأن لم تَنط بي ضيعة أو ولاية!

في أي مرتبة من العالم نحن؟ هل قلت مرتبة؟ اسأل المهاجرين، أو الهاربين، الذين يرفضون اليونان أو المجر أو تركيا. لا شيء دون المانيا. ألم تقل المانيا، مثل جمهورية فايمار، أنها “فوق الجميع”. ليس فوق جميع البلدان التي تقصف بنيها وتشردهم وتمنحهم المخيمات والبحار، بل حتى فوق دول الصناعة والمال. ففيما تقول الفراو ميركل أن بلادها قادرة على استيعاب نصف مليون لاجىء كل سنة في المستقبل المنظور، أعلن فخامة السيد اوباما أن الولايات المتحدة سوف تستقبل عشرة آلاف لاجىء. ربع ما استقبلت الجمهورية التشيكية.

كان السيد أوباما، صاحب السيرة الذ اتية الشهير DREAMS FROM MY FATHER قد اطلق موقفاً أكثر جرأة وإنسانية خلال رحلة إلى القطب، فيما البحار تبتلع اللاجئين: حذَّر العالم، بكل بلاغة، من مشكلة الاحتباس الحراري. رئيس ايكولوجي ومناصر للبيئة. ولطالما كان هذا العالم مؤلفاً من قطبين، المتجمد الشمالي والمتجمد الجنوبي. ولا يزال. يُعرفان ايضاً باسم “الأسرة الدولية”. إذا شئت.

العالم مجموعة أنظمة مجرَّبة لعدة قرون. “النظام” الذي تريد تدميره، منذ عقود وما تركنا نقيصة إلا الصقناها به، هو النظام الذي استطاع أن يستوعب من اللاجئين السوريين أكثر من تركيا والأردن واوروبا. وفي ظل هذا “النظام” لم يُعلن أي لبناني لاجئاً حتى خلال الحرب، كما يقول الدكتور فيليب سالم. فهذا “النظام” استوعب على الدوام المتضايقين بعضهم بالبعض. كلما أزيح فريق، وجد في ما تبقى ما يكفيه. يقول الاستاذ ادمون رزق، الحقوقي المشارك في دستور الطائف، إنه لم تترك فاصلة من نواحي القانون الجمعي إلا وكرست. فالعلة ليست في النص، بل في اعدائه. لعل أحداً لم يكن يتوقع أن يعلن وزير خارجية لبنان ذات يوم، وبالذات يوم الجلوس، أن لا مسيحيين في الشرق من دون التيار. ولا لبنان من دونه أيضاً.

يسمي الروائي الجزائري واسيني الاعرج مشهد الخروج العربي “الهولوكست العربي”. كان يقصد، قبل البحر، مسيحيي الموصل وازيديي العراق وعودة نظام السبي وثقافة الاستباحة. وفيما كان “جهاد النكاح” وبيع السبايا في المزاد ملعلعاً، كانت المرأة الاوروبية تدوِّن بالغار والعطر تفوق ما سمي “الجنس الآخر”.

اليزابيت الثانية تنهي 63 عاماً على العرش الذي عرف من قبلها بعصرين: اليزابيت الأولى، وفيكتوريا. في ظل فيكتوريا، حكم رجال من طبقة بالمرستون و دزرائيللي، وفي ظل هذه السيدة السائرة بقبعتها نحو التسعين، عرفت لندن ونستون تشرشل، وهارولد ماكميلان، ومارغريت تاتشر.

ما هو السّر؟ قبل خمس سنوات خاطبت اليزابيت الثانية الأمم المتحدة قائلة، ان اعظم الإنجازات لم يحققها السياسيون، بل “الشعوب التي اعطيت الحرية في تحقيق ما تستطيع. جميع هذه الانجازات لم تحققها الحكومات وقرارات اللجان، بل رغبة الناس الذين اعطيت لهم الحرية في تحقيق ما ارادوا”.

ثمة سر آخر، غير وطنية الملكة، تواضعها. خدمتها للناس. وانها بينهم في كل الاوقات. وهو التواضع الذي يغمر الألمانية ميركل، والنجاح النسوي الذي يجعل انتخاب امرأة امينة عامة للأمم المتحدة أمراً شبه مؤكد، أو انتخاب هيلاري كلينتون رئيسة، بعد التردي الذي شهدته أميركا منذ جورج دبليو بوش، موتور هذا القرن، الذي بدأ بداية سادية فاحشة في مثل هذا الشهر 2001.

كان سعيد عقل في متاهاته، يأخذ على افلاطون ممارسة الاستعباد وتبرير العبودية. لعله لم ينتبه ايضاً إلى رؤيته للمرأة، التي لم تكن تختلف كثيراً عن رؤية “داعش”. النظام الجيد هو الذي يأخذ من افلاطون الفكر السامي لكل العصور ويترك له ولعصره، اقتناء العبيد واستذلال النساء. النظام العربي أساء الانتقاء من الاشتراكية، وأساء التشدق بالديموقراطية، واساء فهم معاني الحكم الوطني. اشتراكية وفاشية ونازية وستالينية في وقت واحد. والعلمانية كانت غطاءً زائفاً للرواسب الطائفية والمذهبية. ولذلك، تفجّر التحجر مرة واحدة في البر والبحر دماً أسود وطاعوناً يفصل الإنسان عن الأرض ويقتلعه من رحمها بلا أي رحمة.

ما نراه لم يبدأ اليوم، لكن ذاكرتنا ضئيلة. في عز “الحياد الايجابي” كانت عناوينه نهرو وسوكارنو وعبد الناصر والاوروبي تيتو. تفتت يوغوسلافيا وخسرت أندونيسيا نصف مليون قتيل، وتراجعت مصر، وظلت الهند وحدها بلا سجين سياسي وبلا انقلابات وبلا دماء وبلا تفتت. البريطاني الذي استعمر نهرو، علّمه طالباً في كايمبريدج. إن سر البقاء هو في الاستقرار، ولا استقرار في الإكراه، ولا اوطان في السجون، مهما اتسعت واستقظت.

هؤلاء هاربون، وليسوا لاجئين. الوطن هو الكرامة، ليس بمعناها الشواربي والحاراتي، بل بجميع معانيها الإنسانية العميقة، العدل والأمن والكفاية والمساواة. وهذه جميعها احتقرها النظام العربي، واعتبر أن الكرامة الوحيدة هي بقاؤه، كما أعلن الدكتور ابرهيم ماخوس ذات يوم. لكنه ما أن صرح بالقيمة الوحيدة للبقاء حتى نفي من وزارة الخارجية إلى الجزائر دون عودة. لم تنفعه الوسامة التي وصفها اريك رولو في “الموند” بأنها وسامة ممثلي الأدوار الأولى في السينما.

قرأت للاستاذ الياس خوري، من كتّابي المفضلين، أن “زمن الاحلام قد مضى”. لم تكن احلاماً متشابهة. كان معظمنا يحلم بأن يعيش الآخر في كابوس. وبأن يكون منفياً في الداخل وفي الخارج. وأن يكون سجيناً في نفسه وفي بيته. الحلم العربي ليس متشابهاً وليس حلماً. تأمل بحر المتوسط وبر المجر.