لم يعد خافيا الصراع على موانئ البحر المتوسّط وعلى الضفّة الشرقية منه التي يقع عليها لبنان. ليست محاولة تركيا التمدّد في كلّ الاتجاهات سوى دليل على ابعاد هذا الصراع باشكاله المختلفة التي تشمل الثروات النفطية في المنطقة الممتدة من مضيق البوسفور الى ليبيا مرورا بقبرص واليونان وسوريا ولبنان وإسرائيل ومصر.
يحدث التمدّد التركي في ظلّ التردّد الأميركي في البقاء في المنطقة وفي ظلّ تثبيت روسيا وجودها على طول الساحل السوري، تقريبا، وفي ظلّ الخلافات الأوروبية – الأوروبية وتقلّص الدور الذي لعبه حلف شمال الأطلسي (ناتو) تاريخيا في توحيد الاهداف بين الدول الأعضاء فيه. لم يعد هذا الحلف وحدة متراصة كما كانت الحال ايّام الحرب الباردة، بل لم يعد معروفا هل تركيا عضو فاعل في الحلف، كما كانت في الماضي ام لا؟
ما يجعل الرئيس ايمانويل ماكرون شديد الاهتمام بلبنان في هذه الايّام ليس العلاقة العاطفية بين فرنسا ولبنان فحسب، هناك ايضا ما هو اهمّ من ذلك بكثير. ما هو اهمّ من ذلك، الشاطئ اللبناني وميناء بيروت بالذات. لا يمكن لفرنسا البقاء خارج لعبة كبيرة تدور الآن في المتوسّط، خصوصا بعدما استطاعت تركيا إيجاد موقع قدم لها في ليبيا والتوصل الى اتفاقات مرتبطة بالحدود البحرية مع «حكومة الوفاق» فيها تصبّ في مصلحتها.
ليس البحر المتوسّط سوى امتداد حيوي لفرنسا التي عليها ان تكون فيه، خصوصا في ظلّ وجود بؤرتي توتر هما سوريا وليبيا. هناك بلدان تدور فيهما حروب من كلّ الأنواع هما سوريا وليبيا. ما يجري في سوريا وليبيا يهدد مستقبل البلدين. سيكون صعبا في مرحلة معيّنة إعادة تركيب ليبيا. سيكون من الأصعب إعادة تركيب سوريا التي صارت تحت خمسة احتلالات، بينها الاحتلال التركي، إضافة الى الاحتلال الإيراني والروسي والأميركي والإسرائيلي.
تخشى فرنسا ودول أوروبية أخرى مثل إيطاليا واليونان وحتّى المانيا التي لا تطلّ على البحر المتوسط من مزيد من التوتر في منطقة شرق المتوسط التي باتت تقف على كفّ عفريت. اكثر ما تخشاه مزيد من الهجرة اليها. لا يؤثّر ذلك على التركيبة الديموغرافية في أي من البلدان الاوربية الّا بشكل نسبي. لكن الأنظمة الديموقراطية القائمة في هذه الدول باتت تخشى من موجة صعود اليمين المتطرّف التي رافقت تدفق مهاجرين عبر تركيا او ليبيا.
كان من مصلحة لبنان حماية نفسه في وقت اشتدّ فيه الصراع على المتوسط وعلى كلّ ما فيه. المؤسف غياب الطبقة السياسية والقيادة التي تعرف ان الخيار الوحيد الذي كان متوافرا امام لبنان هو «الحياد» ولا شيء آخر غير «الحياد»… والسعي الى العمل على كيفية لملمة أوضاع البلد بدل الدخول في لعبة خطيرة النتائج تمارسها تركيا من جهة وايران من جهة أخرى.
هناك جنون تركي بكلّ معنى الكلمة بسبب سياسة الرئيس رجب طيّب اردوغان الذي يعتقد انّه آن أوان التخلّص من الاتفاقات التي قيدت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. بدأ تقاسم تركة الدولة العثمانية في 1916 مع التوصل الى اتفاق سايكس – بيكو. لكنّ التقسيم الفعلي للتركة كان في مؤتمري سان ريمو وسيفر في العام 1920. ليس في استطاعة اردوغان، بسبب عقله الذي يعمل وفق اجندة الاخوان المسلمين، الاقتناع ان ليس في إمكانه استعادة امجاد الدولة العثمانية. سيكون الرئيس التركي قادرا على الاستفادة من تفتت سوريا، لكن الشاطئ السوري بحد ذاته سيكون روسيا، فيما سيكون الشاطئ اللبناني أوروبيا. لن تتمكن أي قوة من انهاء احتلال تركيا لشمال قبرص منذ صيف العام 1974، لكنّه سيكون من الصعب ان تنجح تركيا في الذهاب الى ابعد من ذلك. ليس مسموحا لتركيا الاعتداء على قبرص واليونان العضوين في الاتحاد الأوروبي وابتلاع حقوقهما وذلك على الرغم من التجاذبات الفرنسية – الإيطالية بسبب ليبيا… وغضّ النظر الأميركي!
ما يفرض على لبنان التنبّه الى خطورة ما يدور في المتوسط طموح «الجمهورية الإسلامية» الى ان تصبح بيروت مدينة إيرانية على المتوسّط. هذا كان المغزى الحقيقي لغزوة بيروت في ايّار – مايو 2008. وهذا ما يبدو ان ايران تعمل من اجله حاليا مستخدمة ادواتها المحلّية الساعية الى تغيير طبيعة لبنان ونظامه.
لا تزال ايران تحلم، الى اليوم، بان تكون دولة متوسطية وان يكون لبنان، وبيروت بالذات، ورقة من اوراقها في ايّ صفقة يمكن ان تعقدها مستقبلا مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و»الشيطان الأصغر» الإسرائيلي.
تداخلت الأمور في البحر المتوسط تداخلا كبيرا. تزداد التعقيدات يوما بعد يوم. توجد الطموحات التركية الى استعادة امجاد الدولة العثمانية. يوجد المشروع التوسّعي الإيراني. يوجد الخوف الأوروبي من اللااستقرار على الضفة الأخرى للمتوسط. توجد رغبة روسيا في الحضور القوي في المياه الدافئة لاسباب مرتبطة بانابيب الغاز التي تصبّ في المتوسط وأخرى مرتبطة بالتطلعات القديمة لروسيا. هناك تفكير لدى الصين بان يكون لها وجود في منطقة بقيت بعيدة عنها، لكنها قريبة من ايران التي وقّعت معها أخيرا اتفاقات ضخمة ذات علاقة بالطاقة…
ماذا لدى دولة صغيرة مثل لبنان تفعله في ظل كلّ هذه التعقيدات؟ الأكيد انّ لبنان كان في حاجة اكثر من ايّ وقت الى شخصيات سياسية من نوع مختلف على علاقة بما يدور في المنطقة والعالم، شخصيات في مستوى ما يشهده البحر المتوسط من تجاذبات وتعقيدات وليس الى مواضيع انشاء لتلاميذ في بداية المرحلة الثانوية يريدون تغيير النظام اللبناني فيما سلاح «حزب الله» فوق رؤوسهم!