يوم طويل أمضاه رئيس الجمهورية أمس بالإستماع لكافة الكتل النيابية بحثاً عن مساكنة مستحيلة بين نقيضين، إنهاء تريّث الرئيس الحريري عن استقالة أُعلنت من الرياض وتحويل النأي بالنفس من شعار لفظي إلى إطار عملي قابل للتطبيق. مغادرة الرئيسين بري والحريري قصر بعبدا دون الإدلاء بأي تصريح، وإعلان رئاسة الجمهورية «أنّ نتائج المشاورات ستعرض على المؤسسات الدستورية بعد استكمالها» يوحي بأنّ الرئاسة الأولى دخلت بدورها فلك التريّث الذي قد يصبح تقليداً في السياسة اللبنانية في الأيام المقبلة.
هامش المناورة المعدومة الذي بقي لرئيس الجمهورية عبّر عنه، على امتداد أيام قليلة، حدّان إقليميان، وضع أولهما قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري حين أعلن إنّ «الحرس الثوري سيلعب دوراً ناشطاً في تحقيق وقف إطلاق نار دائم في سوريا»، وأنّ «نزع سلاح حزب الله اللبناني غير قابل للتفاوض». أمّا الحدّ الآخر فقد عبّر عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حديثة للصحافي توماس فريدمان: «الموضوع الأساسي في المسألة بكاملها إنّ الحريري، المسلم السنّي، لن يستمر في تأمين غطاء سياسي لحكومة لبنانية تخضع في شكل أساسي لسيطرة ميليشيا حزب الله الشيعية اللبنانية التي هي تحت سيطرة طهران بصورة أساسية»…. «وفي الحرب المدعومة من السعودية في اليمن، لا يمكن القبول بأقل من السيطرة على مئة في المئة من أراضي البلاد، لأنّه في غياب ذلك تبقى الإشكالية قائمة». عبّر الفريقان عن استمرار الاشتباك في ميدانين يختصران الإشتباك السعودي الإيراني على أرض لبنان.
التريّث أو انحسار المناورة اللبنانية لا يُقارب ههنا من موقع التهرب من المسؤولية، بل من موقع إدراك الثقل المتزايد للوضع الإقليمي وتشعباته الدولية على الداخل اللبناني. أجل يُراكم اللاعبان الإقليميان يومياً إلى أرصدتهما المزيد المزيد من المواقف المُعلنة وتسجيل النقاط في كافة الساحات المتاحة، بما يفاقم حدّة الإصطفاف، بالتزامن مع أجندة دولية يقرأها كلّ منهما على طريقته ووفق مصالحه، لا سيما بعد اجتماع ترامب – بوتين في فيتنام الذي أرسى تفاهماً واضحاً لإنهاء الحرب في سوريا بما لا يتماشى مع العبث الإيراني.
نجاحات الرياض المتلاحقة في أكثر من مجال تبدو غير قابلة للإستيعاب بسهولة. توحيد صفوف المعارضة السورية بكافة مكوّناتها بما فيها منصّات موسكو والرياض والقاهرة بطلب وبمباركة من موسكو، والنجاح في استضافة أكثر من أربعين دولة تحت راية التحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب وإقرار استراتيجية لإستئصاله ومكافحته عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ومالياً، لا يمكن أن تؤخذ من جانب طهران إلا في إطار صعود قوة إقليمية وازنة تقاسمها النفوذ والدور في شرق أوسط كان حتى الأمس القريب مستباحاً. التقارب المتزايد بين الرياض وموسكو التي قامت بدور محوري في سوتشي، سواء من خلال دعوة الرئيس الأسد وإبلاغه بأنّه حان وقت الإنتقال الى العملية السياسية، أو سواء من خلال إبلاغ الرئيس الروسي كلّ من الرئيسين روحاني وأردوغان أنّ بشار الأسد ملتزم بالعملية السياسية وأنهّ يجب إضفاء الطابع الرسمي على التسوية في جنيف، يبدو وكأنّه يسير في الاتّجاه المعاكس لأشرعة إيران في العالم العربي. ومن المنطقي بمكان إدراج المصالحة الفلسطينية من ضمن الأوراق التي خسرتها إيران في غمرة استسهالها إشعال جبهات عديدة بشكلٍ متزامن.
ردود طهران على الصعود السعودي جاءت بإدخال أوروبا ضمن قائمة الأهداف الإيرانية، لدى محاولة فرنسا اقتراح فصل مسألة الصواريخ البالستية عن الملف النووي الإيراني. فبعد إعلان قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري الشهر الماضي أنّ بلاده «لا تحتاج إلى زيادة مدى صواريخها البالغ ألفيّ كيلومتر، باعتباره يغطي معظم مصالحها ومواقع القوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط»، حذّر العميد حسين سلامي، نائب قائد الحرس الثوري: «إذا أرادت أوروبا أن تتحوّل إلى تهديد فسنفعل ذلك». وفي هذا السياق يمكن إدراج استئناف التصعيد الذي تشهده غوطة دمشق، في محاولة لتفجير الوضع الميداني، وامتناع الحكومة السورية عن إرسال وفدها الى جنيف يوم الإثنين المقبل لاستئناف المفاوضات في خانة الردود التي تقوم بها طهران من خلال ما يسميه النظام بالقوى الرديفة.
حاليات التفاوض التي كان مسرحها القصر الجمهوري عبّرت عن استحالة إقناع طهران بتبنّي النأي بالنفس إلى أَجَل غير محدّد، وعن صعوبة المساكنة بين اندفاعة الرياض كقوة إقليمية صاعدة والإندفاعة الصاروخية لطهران، بالرغم من إيحاءات الرئيسين بري والحريري….
مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات