مرّت ذكرى بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران العام 1982 بصمت، بالكاد هناك من يتذكّر اليوم تلك الخطيئة الكبرى التي ارتكبها لبنانيون بحقّ وطنهم عندما فضّلوا عليه دعم التنظيمات الفلسطينيّة منذ اتفاق القاهرة في أيلول العام 1970، لم يتحمل لبنان أكثر من عاميْن من تاريخ الاتفاق المشؤوم حتى انفجر الوضع بين الجيش اللبناني والتنظيمات الفلسطينية عام 1973، حتى انفجرت الحرب الأهليّة في نيسان العام 1975، بالكاد وصلنا إلى العام 1980 وكان اللبنانيون في بيروت الغربيّة يستجيرون بالله مما تفعله بهم الميليشيات الفلسطينيّة!
أفضل ما يلخّص صورة الوضع اللبناني عشيّة الاجتياح وصف التركيّ تيمور غوكسل الناطق السابق باسم قوات الطوارئ، وكان وصفه دقيقاً: «كان الفلسطينيون يتدخلون كثيراً في حياة الناس، كانوا منتشرين في كل مكان مدججين بالسلاح ومتعجرفين، أسميها عجرفة الكلاشينكوف كان الكلّ يملك مدفعاً للطائرات، يبدو أنه كان لدى منظمة التحرير أموالاً طائلة، فلم أكن أصدق عينيّ، إذ كان المقاتلون يذهبون إلى السوق مصطحبين المدافع المضادة للطائرات، في إحدى المرات ذهبت من الناقورة إلى بيروت فمررت بأربعة عشر حاجزاً كلها للفلسطينيين باستثناء اثنين للجماعات اللبنانية المرتبطة بالفلسطينيين»، كان لبنان محتلاً، وهذه حقيقة لم يكن بإمكان أحد أن يهرب منها، مهما حاول.
أذكر ذاك النهار، كأنّه اليوم، لم أفهم في ذاك العمر المبكر لماذا كنتُ أعرف أنّ الطيران الإسرئيلي سيقصف اليوم، حتى الأمس حتى تمكنت من فكّ آخر رموز تلك الرؤيا لطائرة إسرائيليّة تدور في بيتنا الصغير، أمس وأنا أكتب هذا الهامش فككتُ آخر الرموز، البيت هو «الوطن»، في ذلك الصباح رفضت البقاء في منزلنا عند ساحة أبي شاكر، شعرتُ بقبض وقلقٍ وخوف شديد وحذّرت والدتي من خطر ما يُحدّثني به قلبي، رضخت أخيراً ووافقت أن نمضي بعد الظهر في منزل جدّتي، كان اليوم الأول في العطلة المدرسية استعداداً لامتحان البكالوريا القسم الأول، ولم أفهم يوماً كيف كنتُ أسمع صوت الطائرات الإسرائيليّة قبل بفارق دقيقة واحدة قبل الجميع، كنت أقلّب بين يديّ كتاب الأدب العربي وأقسّم دروسه، وعلى شاشة التلفزيون يحتل مسلسل داينستي الصورة، وكالمجنونة قفزتُ من مكاني أطفأت بيدي التلفزيون وقع نظري على «مشّاية» جدتي وضعتها في قدمي صرختُ بالجميع «إجوا» فتحتُ باب المنزل سمعتُ جدتي تقول لوالدتي «بنتك جنّت» ومن الطابق الثالث حتى الأول علا صوت الطائرات والقصف وارتجّت الدنيا، ومن لحظتها بدأت مرحلة جديدة من الحرب اللبنانيّة ومن حياة كثيرين مثلي.
ما أشبه اليوم بالأمس، أيضاً حلّ شهر رمضان في حزيران الاجتياح، بالكاد صمدنا هاربين من ملجأ إلى آخر خمسة عشر يوماً، عائلات تلو أخرى تهجّرت طريق الهروب طويل ومزدحم وممتد صعوداً من طريق حيّ السلّم الذي أسموه لاحقاً «طريق الكرامة»، تماماً مثلما أسموا الهزيمة المنكرة في حزيران العام 1967 «نكسة»، انتظرنا ساعات قبل أن نعرف إلى أي من مناطق لبنان وضيعه وقراه سيلقي بنا المجهول، 36 عاماً، وما زال هناك من لم يتّعظ بعد من اللبنانيين أنّ لبنان فوق كلّ الأجندات الأخرى، ما أشبه واقع «الكلاشينكوف» الفلسطيني المتعجرف عام 82، بسلاح ميليشيات حزب إيران القابض على قلب لبنان ودولته، للأسف.. أخشى ما أخشاه أن يعيد التاريخ وقدر «حزيران» اللبناني نفسه!