IMLebanon

ذكرى البطريرك الشهيد

يسرّني أن أكتب عن البطريرك الماروني الشهيد جبرائيل الحجولاوي في ذكرى استشهاده الستماية والخمسين، والذي استشهد في 1 نيسان 1367 مع إطلاق سنة الشهادة والشهداء في الكنيسة المارونية.

وإن عدنا إلى تاريخنا وجدناه مطعّماً بروحانية النسك والشهادة اللذين يكوّنان البُعدين المتكاملين في روحانيتنا المارونية التي وضعها مار مارون وعاشها تلاميذه وشعبه من بعده. وفي الحالتين تظهر راديكالية العيش المسيحي في اتّباع يسوع المسيح.

وما كنائسنا وأديارنا المارونية سوى خير شاهد على هذا الإرث العظيم؛ حيث شفعاؤنا هم من الشهداء أو من النسّاك الكبار: إسطفانوس، تقلا، قبريانوس ويوستينا، سركيس وباخوس، نوهرا، ماما، عبدا، شربل الرهاوي، شليطا… أو سابا، أنطونيوس، ضوميط، سمعان العمودي، بيشاي، مارينا، وسواهم الكثير من الوجوه النيّرة والمشرقة التي طبعت، ولا تزال، تاريخنا ووجداننا ومسيرتنا المسيحية في لبنان والشرق بل في كل مكان من ترحالنا وانتشارنا واستقرارنا.

أُسلّط الضوء على أحد بطاركتنا، جبرائيل الحجولاوي، وعلى الحقبة القاسية من الاضطهادات في زمن المماليك، خصوصاً أنّ كنيستنا المارونية هي كنيسة الشهادة والشهداء، إذ اتخذت منذ نشأتها، ككنيسة بطريركية ضمن كنيسة أنطاكية، مع مار يوحنا مارون في أواخر القرن السابع وفي انتشارها المستمّر من بعده، خَط الروحانية التي أسّسها مار مارون وتبنّاها تلاميذه في جبال قورش، والتي حاولت تطبيق الإنجيل بصرامة في حياة زهد ونسك وصلاة وتبشير. وتميّزت تلك الروحانية بحياة متكاملة جمعت في الشهادة للمسيح بين النسك والرسالة.

واتّبع الموارنة مع مار يوحنا مارون، ومن بعده، مقوّمات هذه الروحانية النسكية. فعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على حريتهم والشهادة لإيمانهم بالمسيح، وعملوا في أرضهم القاحلة والصخرية فحوّلوها إلى جنّات وتمسّكوا بها وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسَقوها من عرق جبيهم.

كانوا دوماً أقلّية صغيرة وسط الامبراطوريات والسلطنات على أنواعها، من البيزنطيين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى الصليبيّين إلى المماليك وصولاً إلى العثمانيين الذين حكموا الشرق وأكثر الغرب لأربعماية سنة.

لم يطلبوا لأنفسهم من العالم سلطاناً ولم تكن في يدهم سلطة؛ لأنهم «لم يأتوا إلى جبل لبنان لاجئين ولا فاتحين، بل أتوه نسّاكاً ومُرسلين، وجعلوا منه معقلاً للحريات يلجأ إليه كل مضطهد في الشرق»، كما يقول الأب يواكيم مبارك.

فكانوا حَمَلة رسالة مطبوعة بالشهادة النسكية والاستعداد للاستشهاد دفاعاً عن إيمانهم بالله وحفاظاً على ثوابتهم الأربع الغالية، أي:

1- حريتهم في عيش إيمانهم بالله والتعبير عن آرائهم،

2- تعلّقهم بأرضهم المقدسة التي سَقوها من عرق جبينهم،

3- إرتباطهم بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها،

4- ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب.

أمّا لماذا اختار أبناء مارون المجيء إلى جبل لبنان ؟ فذلك لأنه «الجبل الذي يسكن فيه أولياء الله تَلبية لدعوة منه». لقد ارتضى الموارنة، في تبنّيهم الحياة النسكية بعد مارون ويوحنا مارون، أن يخوضوا المغامرة مع الله حتى النهاية، وقبلوا التضحية بالذات لأنّ روحانيتهم النسكية هي روحانية الصليب. فَهِموا أنّ التضحية بالحياة ليست خسارة لها بل هي على العكس ربح جديد لها بقدر التضحية بها.

وكانوا يقصدون «الارتفاع حيث يشخص نظرهم إلى ذاك الجبل الذي أراده الله لهم موطناً»، كما يقول الأب ميشال الحايك، ليكونوا في علاقة روحية عمودية معه. فحملوا صليبهم مع المسيح، وراحوا يرتفعون به صعوداً حتى التضحية بالذات، حتى الارتقاء إلى الله. وتخلّوا عن أمور الدنيا وزَهدوا بها. ولم يرضوا التعامل معها إلّا من خلال علاقتهم مع إخوتهم البشر إلى أي دين أو طائفة أو جنس أو عِرق أو ثقافة انتموا.

إنّه البُعد الأفقي والرسولي في روحانيتهم النسكية، ما سمح لهم بالانتشار السهل إلى الوديان ثم إلى السواحل وإلى أبعد من البحر، إلى كل أصقاع العالم حيث هم منتشرون اليوم.

أمّا اليوم فإننا نشهد تجدّد حملة الاضطهادات على المسيحيين في أنحاء عديدة من العالم، خصوصاً في بلدان الشرق الأوسط، قتلاً ودماراً وتشريداً وتهجيراً، كما يقول ويردّد قداسة البابا فرنسيس: «واليوم أيضاً تعاني الكنيسة أقسى الاضطهادات، في أماكن عديدة، حتى الاستشهاد. أخوة وأخوات لنا يعانون الظلم والعنف والاضطهاد وهم مُبغضون من أجل اسم المسيح. فالشهداء اليوم هم أكثر من شهداء القرون الأولى».

سنة الشهادة والشهداء هي إذاً مناسبة فريدة ومميزة لتجديد التزامنا المسيحي والماروني بالشهادة للمسيح والاستعداد لتأديتها حتى شهادة الدم على مثال مَن سبقنا من الشهداء والقديسين من بيت مارون. وهي دعوة إلى التعمّق في عيش الفضائل الإيمانية والجهوزية لعيش المحبة والقيام بالرسالة بأدوات السلام.

إنها مناسبة لتجديد التزامنا بمناشدة الحرية لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعددية الدينية والثقافية والحضارية التي تميّزنا، ولتجديد انتمائنا إلى كنيستنا الانطاكية وإلى محيطنا الطبيعي في العالمين العربي والإسلامي وانفتاحنا على الغرب وثقافته واتّحادنا مع الكنيسة الرومانية الممثّلة بالكرسي البُطرسي وبالجالس عليه اليوم قداسة البابا فرنسيس.