بعد انتهاء الاستقبال السنوي للسلك الديبلوماسي في قصر بعبدا ومع عودة السفراء الى مقارهم الرسمية، علق أحدهم في الزحمة الخانقة نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي كانت تقفل الطرق الرئيسة. وفيما كان هذا السفير الذي يمثل احدى الدول الاوروبية يعاين بالعين المجرّدة حجم الغضب الذي كان بادياً على تصرّفات المحتجين، علّق قائلاً: «لا شك انّ هنالك انفصالاً عن الواقع لدى الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان».
هذا الكلام ردّده تصريحاً بعد ساعات ممثل الامين العام للامم المتحدة في لبنان يان كوبيتش الذي قال، إنّ على السياسيين في لبنان ان يلوموا انفسهم على هذه الفوضى الخطيرة. وتابع في ردّ على ما حصل امام مصرف لبنان انّ هذا المصرف يطلب صلاحيات استثنائية لادارة الاقتصاد، في حين يقف المسؤولون موقف المتفرّج وهو ينهار.
وخلال الايام الماضية حصل كثير من الألاعيب والمناورات بين القوى السياسية المنتمية الى الفريق الواحد، والتي رعت تسمية حسان دياب لتشكيل الحكومة.
وبعيداً من المواقف الرسمية المعلنة والتي غالباً ما تكون غير صادقة وتهدف الى ذرّ الرماد في العيون وغسل الايدي امام القواعد الشعبية، إلاّ انّ النزاعات التي كانت تشكّل حاجزاً امام ولادة الحكومة، ارتكزت على حسابات لها علاقة بتعزيز الأحجام وفرض الحضور، كتعويض عن خسائر الشارع نتيجة الانتفاضة الشعبية، ورسم حسابات مبكرة لاستحقاقات مقبلة وإسقاطها على التشكيلة الحكومية. إذ، ماذا لو استمرت هذه الحكومة حتى نهاية العهد وتولّت الاشراف على الاستحقاق الرئاسي؟
وفق كل هذه التناقضات تجمّدت الحكومة، أضف الى ذلك انزعاج الرئيس نبيه بري من إحجام الرئيس حسان دياب عن التنسيق والتشاور المباشر معه من خلال زيارة عين التينة. كما انّ بري كان أظهر استياءه الشديد من «توريطه» من قِبل رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل باستبدال حكومة التكنوقراط بحكومة تكنو سياسية، مع السعي لتوسيعها لتصبح 24 وزيراً، بذريعة تبدّل الوضع في المنطقة بعد اغتيال قاسم سليماني، ليكتشف لاحقاً أنّ باسيل استعمل هذا الموقف الجديد لتحسين شروطه الوزارية.
كان غريباً بعض الشيء أن يتنازع ابناء البيت الواحد، اي القوى المنضوية تحت عباءة 8 آذار، فيما الفريق الأقوى في هذا التحالف، اي «حزب الله»، ابلغ الى دياب انّه لا يشترط توسيع الحكومة وتطعيمها بوزراء سياسيين، وان لا علاقة بين تشكيل الحكومة والتطورات الاقليمية.
وفيما كان بري يردّد امام زواره وفي مجالسه الخاصة أنّ باسيل يكبّل الحكومة بسبب حساباته الرئاسية، كان رئيس «التيار الوطني الحر» يروّج لقرار اتخذه وسيعلنه، ويقضي بعدم المشاركة في التشكيلة الحكومية، وبالنسبة الى إعطاء الثقة «منشوف». وقابله بري بموقف مشابه.
الإنفصال عن الواقع الذي ردّده الديبلوماسي الاوروبي كان توصيفاً حقيقياً للنزاع الدائر داخل الطبقة السياسية الحاكمة.
ففيما كانت النزاعات ترتكز على حسابات سياسية ومحاصصة، كان الانهيار الاقتصادي يزداد تفاقماً، وسعر صرف الدولار يسجل أرقاماً قياسية للمرة الأولى منذ أكثر من 28 عاماً.
غالب الظن، انّ الطبقة السياسية الحاكمة كانت تعتقد انّ انتفاضة 17 تشرين انتهت، وأنّ الناس خرجوا من الشوارع، وأنّه يمكن العودة الى 16 تشرين. لذلك عادت الحشود الى الشوارع. صحيح انّ الاعداد ولو كانت كبيرة الّا انّها لم تكن في مستوى اعداد بدايات الانتفاضة الشعبية، الّا انّ الجديد كان في مستوى الغضب الذي فاق بكثير المستوى السابق.
ذلك انّ هنالك في السلطة من لا يريد ان يصدّق أنّ المرحلة السابقة انتهت، وانّ ثمة ذهنية جديدة باتت تسود الأوساط الشعبية، وهو ما يعني انّ عقارب الساعة لن تعود الى الوراء.
هذا الغضب الشعبي دفع الى قطع المناورات ووقف الاعيب النزاعات والعودة الى الواقع، فكان ان أثمر ضغطاً لإنجاز الولادة الحكومية.
فزار المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الرئيس بري فاتحاً الطريق امام إعادة ترتيب العلاقة مع قصر بعبدا، على ان يزور باسيل عين التينة في تعويض معنوي، على ما اعتبره بري استعمال موقفه لتحسين الشروط التفاوضية لـ«لتيار الوطني الحر».
في اللقاء تحدث بري بإسهاب عن انزعاجه مما حصل، لكن باسيل نفى ان يكون موقفه قد حمل هذا الالتباس، وتمّ التفاهم على طي صفحة الحكومة التكنوسياسية والعودة الى حكومة التكنوقراط التي يتمسّك بها دياب لإرضاء الشارع، والأهم حيازة رضا العواصم الغربية القادرة على مساعدة لبنان إقتصادياً. كذلك ابدى بري معارضته لاستئثار باسيل بكل الحصّة المسيحية على خلفية الاستحقاق الرئاسي المقبل.
كذلك تمّ التفاهم على العودة الى صيغة الـ18 وزيراً، وهي الصيغة التي يصرّ عليها دياب في مقابل بعض التعديلات الوزارية، كمثل ان يتولّى ناصيف حتي وزارة الخارجية، وإيلاء دميانوس قطار وزارة الاقتصاد، وان يتولى اللواء المتقاعد ميشال منسى وزارة الدفاع ، مع الإشارة هنا الى اشكالية إيلاء لواء موقع وزير دفاع فيما قائد الجيش رتبته أعلى وهي رتبة عماد.
في المحصلة، استفاد دياب من الحراك المتجدّد، وهو سيزور بري اليوم لإنهاء مشاوراته وملبياً دعوته الى الغداء، على ان يبدأ العد العكسي لإعلان الحكومة.
لكن الأوساط الديبلوماسية في بيروت راقبت بتمعّن «رسالة الشغب» التي تمّ توجيهها من أمام مصرف لبنان في شارع الحمرا. ورغم تنصّل الجميع من المحتجين الملثمين، الذين خاضوا مواجهات عنيفة مع القوى الامنية، وحطّموا واجهات مصارف بعد محاولة الدخول الى مصرف لبنان المركزي، الّا انّ احد السفراء الغربيين البارزين قرأ في «شغب الحمرا» رسالة ضدّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ودعوة من يدعمه الى فتح الطريق امام إقالته.
وجاء الجواب بعد ساعات على لسان يان كوبيتش. أما السفير الغربي البارز فعبّر على طريقته، قائلاً: «صحيح انّها رسالة مشفرة لكنها ليست بشراسة رسالة العبوة التي تمّ تفجيرها أمام المقرّ الرئيسي لمصرف «لبنان والمهجر» في الحمرا منذ بضع سنوات.