{أؤيد أسباب الاستقالة… وليحصل كلام بين عون وبري}.هذا الكلام، وأكثر منه قاله البطريرك الراعي في زيارته التاريخية للسعودية، بدعوةٍ من الملك سلمان بن عبد العزيز. وأضاف البطريرك: «الحريري عائد بأسرع ما يمكن، والقيادة السعودية أكدت دعمها للبنان. وأنا مقتنع ليس بأسباب الاستقالة فقط، بل وبأنه يجب أن يحصل كلام بين الرئيسين عون وبري. وسيعود الحريري إلى لبنان في أي وقت!»
أول رجل دين مسيحي كبير زار السعودية في الأزمنة الحديثة، هو البطريرك إلياس الرابع عام 1974. لكنه ما أتى بدعوةٍ من الملك، ولا كانت له رسالةٌ محدَّدة غير إثبات الودّ في العلاقات المسيحية – الإسلامية العربية خلال مؤتمرٍ للقمة الإسلامية. إنما منذ ذلك الحين، جرت في النهر مياهٌ كثيرة، وفسد حتّى الملح الذي يحمي الطعام:
يا معشر العلماء يا مِلح البلد
من يصلح الملح إذا الملح فسدْ!
ولذلك فإنّ نهوض البطريرك الراعي لتصحيح الخلل، وربط اللحمة، وإعادة الأمور إلى نصابها، هو جهدٌ مقدَّرٌ كثيراً جداً من اللبنانيين، ومن السعوديين. ماذا يقول البطريرك الراعي؟ ولمن يوجّه الكلام؟ يوجّهه لرئيس الجمهورية وللرئيس بري. وذلك لأنهما هما الطرفان الآخران في التسوية. الرئيس الحريري في مقابلته مع بولا يعقوبيان بتلفزيون المستقبل، قال إنه يريد مراجعة رئيس الجمهورية والعمل معه، للوصول إلى التسوية الحقيقية، وإنّ المشكلة محصورة بتدخل الحزب في اليمن! البطريرك قال إن للاستقالة أسباباً وليس سبباً واحداً، وإنه ليس من حقّ الأطراف الأخرى غسل اليد بماء الطهارة كأنما ما حصل شيءٌ، بل إنّ الحريري لا يقصد ما قال، وإنّ المهمَّ عودته وتحت وطأة ضغوط الجنرال والأمين والصهر الكريم! بل إنّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ، ولذلك أوفد الجنرال وزير خارجيته اللوذعي جبران باسيل إلى فرنسا للمزيد من الضغوط على المذنبين، وكأنما لا يعرف أنه هو وصهره هم أصل المشكلة وفصلها!
يكاد المُريب يقول خذوني! زعيم «حزب الله» وهو يتظاهر بالدفاع عن الحريري، ما استطاع نسيان ارتكاباته. فعاد إلى عام 2006 زاعماً أن المملكة أرادت تصعيد ومدَّ الحرب على الحزب! وكلنا يعلم أنه لولا الملك عبد الله وسعود الفيصل ما أوقف إطلاق النار، ولا جرى إقرار القرار الدولي رقم 1701. ولولا الملك عبد الله ما جرت إعادة الإعمار. وليست هذه هي المرة الأولى، بل هي الرابعة أو الخامسة التي تعيد فيها السعودية إعمار لبنان. وقبل الإعمار الحجري وبعده، هناك الإعمار الإنساني والسياسي باتفاق الطائف، وبالثلاثمائة ألف لبناني الذين يعملون في السعودية وحدها، فضلاً عن عشرات الألوف في دول الخليج الأخرى.
ويكون جزاء السعودية أن يستهدف «المتأيرنون» أمنها وأمن لبنان، وأن يسير معهم الرئيس وصهره باسم تحالف الأقليات، وأن تصبح المشكلة الوحيدة كيف يمكن إقناع العرب واللبنانيين بأنّ الدخول في المحور الإيراني هو الذي يحمي الاستقرار، على أن يكون مفهوماً أنه إن لم يكتمل الاستسلام لدعوة المذلّة والخضوع. فإنّ الاغتيالات ستعود، ويضطر الرئيس للمزيد من اللجوء إلى الأحضان الحانية، مُظهراً المزيد من التأييد لمحور المقاومة وتكون السعودية والعرب الآخرون هم المذنبين!
لماذا كانت زيارة البطريرك بصيرةً وشجاعةً ووعياً بالماضي والمستقبل؟ لأن التسوية الميمونة ما ترك لها نصر الله والرئيس وصهره سقفاً ولا جدراناً. من التشكيك في القرار رقم 1701 لحماية حدود لبنان، وقبل ذلك تأييد احتلال الحزب لبيروت عام 2008، فإلى التفضل علينا بين الحين والآخر بالإعلان عن عدم احترام الطائف والدستور، فإلى التحزب الطائفي في الوظائف العامة بالدولة، فإلى إقرار قانون غير معقول للانتخابات، فإلى استتباع الجيش للحزب في حرب الجرود، فإلى تهديد الأمن العربي بنسيان مبدأ النأْي بالنفس وتحييد لبنان، بل واستخدام أرضه ساحةً للعمل على التخريب بكل الدول العربية. فروحاني ما اكتفى بدول المشرق والخليج، بل ذكر النفوذ الإيراني في دول شمال أفريقيا أيضاً!
ذهب البطريرك إلى المملكة وقد أثقلت أعباء العهد خلال عامٍ واحدٍ فقط كاهله وكاهل اللبنانيين. وقال بالمملكة إنّ الاستقالة لها أسبابها الواضحة والموضوعية. وإنّ الشركاء في التسوية يتحملون العبء الأكبر. فيما نزل ويوشك أن ينزل بالتسوية والبلاد. وإنّ المشكلة ليست متى يعود الرئيس الحريري فهو عائدٌ قريباً، بل المشكلة في استعادة التوازن، وتحييد لبنان عن سياسات المحاور وعن السياسات الحزبية والطائفية، ومنع الميليشيا الحزبية الطائفية من الإضرار بالأمن العربي، وليس أي أمن، بل أمن بلاد الحرمين!
إنّ هذا هو المعنى التاريخي لزيارة البطرك للمملكة. فالعلاقة المسيحية العربية والعالمية بها ومعها كانت وثيقة وضمانةً دائمة. وحتى على مشارف الحرب الأهلية ما انقطعت، بل زادت للطمأنة وبعث الثقة بمستقبل لبنان، وصون سائر مكوّناته. وحتى مع حافظ الأسد كانت للمملكة كلمتها لصالح المسيحيين. وكانوا يقدرون البطريرك صفير تقديراً عالياً، وها هم يستقبلون البطريرك الراعي بأذْرع مفتوحةٍ على الحاضر والمستقبل. إنها الأذرع العربية والإسلامية التي لا تفرّق ولا تتطيّف، ولا تمزح أو تلعب بالتنوع وإثارة المخاوف لتعتبر نفسها بعد ذلك حاميةً لهذه الأقلية أو تلك! فنحن ذوو انتماء واحد، ومن أخلّ بانتمائه فقد أخلَّ بوجوده!
لقد تحمل البطريرك الراعي المسؤولية التاريخية للتصحيح والاستدامة واستعادة الثقة، والاستئناف من موقع الأخوة. ويكون على فئات الشعب اللبناني أن تُجري تسويةً في نطاق العيش المشترك الذي يمثّله انفتاح البطرك واستنارته. وإذا استندت التسوية إلى العيش المشترك، لا يعود هناك مجالٌ للشكوى من الاستهداف أو الحصار، لأن الجميع يحمل الجميع. أما الاستئثار الذي حمل شعاراته هذا العهد، فلا يستطيع وطني لبناني احتماله. وقد يكذب هذا الطرف أو ذاك أو يُجامل. لكنّ موقف البطريرك الذي لا يجامل، وضع النقاش والعلاقات السعودية – اللبنانية في مستوى يتعذر معه الانحناء أو التحامُل أو تحميل الأبناء مظالم وذنوب الآباء!
إنها معادلةٌ ذات طرفين: لا يمكن أن يقوم نظامٌ لبناني يتكافأُ أطرافه، ويكون العرب مستهدفين فيه. كما لا يمكن أن يقوم نظامٌّ لبناني يكون العرب مستهدفين فيه، وسائر اللبنانيين بخيرٍ وبركة! هذا هو الدرس الذي ينبغي تعلمه من استقالة الحريري في الرياض، وتعلمه من موقف البطرك الراعي في المملكة.
هناك فريقٌ من المسيحيين الرسميين يقول بتحالف الأقليات، وبالعمل عند النظامين الإيراني والسوري. وها هو البطريرك الماروني يقول من المملكة إنه لا عيش إلاّ مع العرب والمسلمين.