اقرت الحكومة اللبنانية، بعد جهود مضنية، سلسلة من الإجراءات التي لا بأس بها من اجل وضع حدّ للعجز في الموازنة وتوفير امل للمواطن العادي بتحسين وضعه المعيشي. كان الهدف من كلام رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بعد جلسة للحكومة، نزع فتيل الازمة التي يعاني منها لبنان والتي أدت الى نزول نصف الشعب الى الشارع. لم يخف الحريري تعاطفه مع المتظاهرين مبديا كلّ تفهّم للأسباب التي دعت الى قيام ما يمكن وصفه بـ»ثورة شعبية لبنانية» على كلّ المستويات الشعبية وفي كلّ المناطق والطوائف.
ما ظهر واضحا، من خلال ما شهده لبنان يوم الاثنين، ان المواطن العادي لا يؤمن بالطقم السياسي الذي يحكم بالبلد ولا بالنظام الذي فرضه «حزب الله» على اللبنانيين والذي جعل لبنان يمرّ بسلسلة من الازمات وصولا الى الازمة الأخطر المتمثّلة في وضع النظام المصرفي اللبناني الذي يبقى وحيدا العمود الفقري للاقتصاد بعدما امعن «حزب الله» في عزل لبنان عن محيطه العربي.
ليست المشكلة في الاجراءات الإصلاحية التي اعلن عنها سعد الحريري، وهي إجراءات كان مفترضا إقرارها وبدء العمل بها قبل سنوات عدّة. تكمن المشكلة بكلّ بساطة في انّ لا وجود لفريق عمل متجانس قادر على تنفيذ خطّة انقاذية بدل ان يكون لبنان مجرّد ورقة إيرانية لا اكثر.
ما لا مفرّ من العودة اليه، انّ من بين أسباب فقدان الدولار في السوق اللبنانية اغراق السوق بالعملة السورية من اجل شراء العملة الاميركية وذلك بغية تغطية عمليات شراء النفط لسوريا أيضا وليس للبنان وحده…
يجد لبنان نفسه في وضع لا يحسد عليه. يتجاوز الامر ورقة إصلاحات اقتصادية في ظلّ عجز مستمرّ عن معالجة ايّ مشكلة مطروحة، بدءا بالكهرباء وصولا الى النفايات. كلّ ما في الامر انّ تغييرا في العمق حصل في تركيبة النظام اللبناني فرضه «حزب الله» الذي يصرّ على تشكيل حكومات تقع تحت سيطرته لا مكان فيها لايّ قدرة على النقاش الجدّي والاخذ والردّ. ما سمّاه «حزب الله»، الذي اتى برئيس الجمهورية الحالي وفرضه على اللبنانيين، بـ»الديموقراطية التوافقية» ليس سوى الطريق الاقصر لفرض ديكتاتورية ونظام متسلّط على لبنان واللبنانيين بغية تحويله الى مستعمرة ايرانية. ما نشهده حاليا هو سعي إيراني للحلول مكان الوصاية السورية التي بدأت في 1990 والتي مهّد لها اغتيال الرئيس رينيه معوّض. بعد اغتيال رينيه معوّض، في 1989، صار اتفاق الطائف الذي في أساس الدستور اللبناني الحالي ينفّذ على الطريقة السورية. بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005، صار مطلوبا تنفيذ اتفاق الطائف على الطريقة الايرانية. الم يقل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الايراني، بعد اعلان نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان (في ايّار مايو 2018) ان «الجمهورية الإسلامية» صارت تمتلك أكثرية في البرلمان اللبناني؟
ليس تدفّق اللبنانيين على وسط بيروت مباشرة بعد اعلان سعد الحريري عن الورقة الإصلاحية التي اقرّت في مجلس الوزراء سوى دليل على رغبة شعبية في الذهاب الى ابعد. هناك حاجة الى تغيير في العمق في لبنان، تغيير يعيد البلد الى وضعه الطبيعي. هذا يعني بوضوح عودة لبنان الى العيش في ظلّ نظام ديموقراطي فيه حكومة وفيه معارضة مهمّتها محاسبة هذه الحكومة وليس إيجاد شراكة بين الزعماء السياسيين بهدف التغطية المتبادلة على الفساد والهدر والتهريب.
لا شكّ انّ لدى سعد الحريري كلّ النيّات الطيبة، لكنّ العين بصيرة واليد قصيرة، خصوصا انّ معظم العرب سحبوا يدهم من لبنان. سدّت في وجهه كلّ المخارج وذلك في وقت لم يعد سرّا ان المواطنين العاديين، من كلّ الطوائف، ملّوا من ممارسات رئيس «التيّار الوطني الحرّ» جبران باسيل الذي يعتقد ان تزلّفه لـ»حزب الله» سيوصله الى رئاسة الجمهورية.
ليس العرب وحدهم الذين سحبوا يدهم من لبنان. هناك إدارة أميركية تتصرّف تجاه لبنان في الوقت الحاضر، تماما كما تصرّفت إدارة باراك أوباما تجاه ثورة الشعب الايراني في العام 2009. تفاديا لازعاج ملالي ايران، تخلّى أوباما عن الشعب الايراني كما تخلّى لاحقا عن الشعب السوري. كان هدفه التوصّل الى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني بغض النظر عمّا يحلّ بالايرانيين والسوريين. تحقّق له ما أراد صيف العام 2015. ما الذي يريده دونالد ترامب هذه الايّام؟ ما هو نوع الصفقة التي تُطبخ مع ايران او مع غير ايران والتي تجعله لا يرى ما الذي يحصل في لبنان؟
الى جانب ما تشهده بيروت، هناك قمع مورس في جنوب لبنان واستهدف الشيعة الذين انتفضوا في وجه عهد «حزب الله» في لبنان. هؤلاء اظهروا انّهم لبنانيون اوّلا وان كلّ ما يقال عن غياب أي مقاومة للهيمنة الايرانية على شيعة لبنان غير صحيح اطلاقا.
اذا لم يكن هناك اقتناع بوجود تحرّك شيعي حقيقي في مقاومة «حزب الله» ومن لفّ لفّه، تكفي نظرة الى ما تشهده مدينة طرابلس ذات الأكثرية السنّية للتأكد من انّ اللبنانيين ما زالوا متمسّكين بثقافة الحياة. عمل كثيرون في لبنان، من بينهم «حزب الله» على وصف طرابلس بانّها قندهار. كشفت طرابلس، التي لم تنم طوال الايام الأربعة الماضية على صوت الموسيقى الصاخبة معلنة انضمامها للثورة على عهد «حزب الله»، وجهها الحقيقي. انّها مدينة لبنانية أخرى ترفض الظلم. من لا يعرف طرابلس، لا يعرف انّها مدينة ترفض ثقافة الموت والصاق تهمة الإرهاب والتعصّب والتزمت بها. عمل النظام السوري طويلا من اجل زرع الطائفية والمذهبية في طرابلس. اثار السنّة على المسيحيين ثم اثار العلويين على السنّة. ارتكب كلّ أنواع المجازر من اجل اخضاع المدينة. لكنّ طرابلس بقيت لبنانية، على الرغم من انّها امتداد طبيعي لحمص وللساحل السوري… ولكلّ اهل السنّة السوريين الذين يتعرّضون للظلم والقهر والقمع باشكالهم المختلفة منذ نصف قرن.
هناك رسالة اهل الجنوب الشيعة وهناك رسالة من اهل طرابلس السنّة والمسيحيين. هناك انتماء الى لبنان اكثر من أي وقت. هذه الرسالة التقطها سعد الحريري من خلال كلمته التي اعلن فيها عن الإصلاحات والتي اكد فيها وقوفه مع المتظاهرين. هؤلاء يصنعون المستقبل، هؤلاء يتلون من خلال مقاومتهم لـ»حزب الله» فعل ايمان بلبنان.
تبقى الحاجة الى ما هو اهمّ من الإصلاحات. الحاجة الحقيقية الى فريق عمل ينفّذ الإصلاحات وليس الى شراكة بين مجموعات لا همّ لها سوى نهب البلد. الحاجة بكلّ بساطة الى الانتهاء من عهد «حزب الله» ورموزه المسيحية. من دون ذلك، لا املّ بتحقيق الثورة اللبنانية أي وعد من وعودها!