تحرّكت المنطقة بقوة قبيل بدء وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو زيارته الثانية الى الشرق الأوسط. وتمّ توجيه الرسائل يميناً ويساراً وهو ما كان متوقعاً، ذلك أنّ الإدارة الأميركية تعمل على تحضير المنطقة جيداً قبل كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مشروعه المعروف بـ «صفقة القرن».
فمن الجولان المحتل طالب رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو بضم مرتفعات الجولان الى اسرائيل، ووقف الى جانبه السيناتور الاميركي الجمهوري ليندسي غراهام ليعلن البدء بالعمل لإعلان بلاده الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان.
ولم يكن موقف غراهام مفاجئاً، فقد سبقه كل من السيناتورين تيد كروز وتوم كوتون، وهما من الحزب الجمهوري الحاكم، بمشروع قانون يقضي بالاعتراف بسيادة اسرائيل على هضبة الجولان المحتلة. والاهم انّ مشروع القانون هذا يحظى بدعم «الديموقراطيين». وفي الوقت عينه أسقط تقرير صادر عن وزارة الخارجية الاميركية مصطلح «المنطقة المحتلة» عند ذكر هضبة الجولان وكذلك قطاع غزة والضفة الغربية.
وتأتي هذه الاشارات الاميركية مع تداول معلومات في الاوساط الديبلوماسية عن ترجيح اعلان ترامب اعترافَ بلاده رسمياً بضمّ اسرائيل للجولان المحتل خلال لقائه نتنياهو اثناء زيارة الأخير لواشنطن للمشاركة في مؤتمر «إيباك» السنوية بعد اسبوعين. وهو ما سيؤدي الى منح نتنياهو جرعة دعم اميركية كبيرة عشية الانتخابات الاسرائيلية. وبالطبع فإنّ للهدية الاميركية ثمناً على نتنياهو أن يدفعه بعد تأليف حكومته المقبلة والقاضي بإمرار «صفقة القرن» التي يحتاجها ترامب بدوره لاستثمارها في حملته الانتخابية للتجديد له لولاية ثانية.
قبل ذلك كان الملك الأردني عبدالله الثاني يلتقي خلال زيارته لواشنطن وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو ومستشار ترامب صهره جاريد كوشنر والمبعوث الاميركي المكلف ملف التسوية الاسرائيلية – الفلسطينية جيسون غرينبلات، ولا حاجة للاشارة الى أنّ البحث تركّز حول الاعلان القريب لـ»صفقة القرن».
نتنياهو بدوره كان قد زار موسكو في أول رحلة له منذ أزمة إسقاط الطائرة الروسية شمال غرب سوريا. ونقلت اوساط ديبلوماسية انّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بحث مع الرئيس الروسي في نقاط اربع هي:
1 – «صفقة القرن» من الزاوية الاسرائيلية واحتياجاتها الامنية.
2 – عدم نقل منظومة صواريخ «إس 300» الى الجيش السوري وإبقاؤها تحت السيطرة الروسية.
3 – البحث في موضوع الحضور الايراني في سوريا.
4 – السماح الروسي للطائرات الاسرائيلية بالعمل في مناطق سورية محددة.
لكنّ هذه الرسائل لم تقتصر على الجانب السياسي فقط، بل تحوّلت الى الجانب العسكري والأمني. فكشفت اسرائيل عن خليّة لـ»حزب الله» تعمل في الجولان وعن بنية تحتية كاملة للانطلاق بأعمال عسكرية وأمنية في اتجاه اسرائيل.
لكنّ اللافت هنا أنّ اسرائيل وعلى غير عادتها لم تذهب في اتّجاه استهداف هذه الخلية عبر قصفها بواسطة طائراتها. لا بل قيل إنّ اسرائيل عمدت الى زرع عبوات ناسفة بغية اغتيال مسؤولي هذه الخلية سرعان ما اكتُشِفت هذه العبوات وعُطِّلت قبل استخدامها. وهذا يعني أنّ اسرائيل تتجنّب القيام بخطوات قد تؤدي الى تدهور الاوضاع والانجراف في اتجاه مواجهات مفتوحة وهذا ما لا تريده بتاتاً.
ذلك أنه خلال التصعيد الذي حصل منذ اكثر من شهر وشهد اطلاق صواريخ في اتجاه مواقع الجيش الاسرائيلي في الجولان وأعقبته غارات اسرائيلية مكثفة، كادت الاوضاع أن تخرج عن السيطرة ما استدعى طلباً إسرائيلياً من موسكو لإعادة «ضبضبة» الوضع والتقيّد بقواعد الاشتباك المعمول بها. وهو ما يعني دليلاً إضافياً على رفض اسرائيل الانزلاق في اتّجاه الحرب.
لكنّ الرسالة الامنية الأخطر جاءت هذه المرة من غزة. فبلا سابق إنذار أُطلِق صاروخان في اتجاه تل ابيب للمرة الاولى منذ 2014، إضافة الى الرسالة الأمنية من الضفة الغربية.
الرسالة الامنية شكلت صدمة لدى اسرائيل. ذلك انّ الاجهزة الامنية الاسرائيلية فشلت في الحصول على تحذيرات مسبقة حول احتمال حصول شيء ما، ولا حتى تقديرات في هذا الاطار، كذلك فشل نظام «القبة الحديد» في التصدي للصاروخين.
وخطورة رسالة الصاروخين جاءت، ليس فقط من زاوية المكان المستهدف وهو قلب اسرائيل، بل ايضاً من حيث الزمان والذي يسبق موعد الانتخابات الاسرائيلية بأسابيع معدودة، في وقت يتولّى مرشح ترامب، أي نتنياهو، مسؤولية وزارة الدفاع الى جانب رئاسته للحكومة.
الواضح أنّ حركة «حماس» المتهمة بإطلاق الصواريخ وجّهت رسالتها لبومبيو قبيل بدء جولته، بأنها جاهزة وحاضرة وقادرة على مباغتة اسرائيل وتوجيه ضربة معنوية لنتنياهو قد تؤثر عليه سلباً في الاستحقاق الانتخابي.
والرد الاسرائيلي بقي تحت السقف المرسوم له. صحيح أنه جاء عنيفاً مع استهداف حوالى مئة موقع ومقر لحركتي «حماس» و»الجهاد الاسلامي»، إلّا أنه بقي في إطار تدمير الحجر لا البشر. فقبل ساعات معدودة من الرد الانتقامي أبلغت تل ابيب الى الوفد المصري الذي كان موجوداً في غزة، في إطار وساطته، بضرورة المغادرة لأنها ستقوم بقصف انتقامي. وهو ما يعني تعمّد ترك مسافة زمنية لـ»حماس» و»الجهاد الاسلامي» لإخلاء مقراتهما الحزبية والعسكرية، وهو دليل آخر أنّ إسرائيل لا تضع في حساباتها مشاريع الانزلاق الى الحرب.
لا بل أكثر فإنّ اسرائيل أخذت بالتبرير الذي يشير الى أنّ الصاروخين أُطلقا خطأً، وهو تبرير غير منطقي أو واقعي. هو في الحقيقة «ورقة التوت» لإخفاء عجز انتنياهو عن الرد امام الشارع الانتخابي الاسرائيلي.
لا بل إنّ وسائل الاعلام الاسرائيلية وضعت ما حصل في اطار آخر يقول إنّ حركة «حماس» اطلقت الصاروخين خلال اجتماع الوفد المصري معها والسبب وصول هذه المفاوضات الى طريق مسدود، وبهدف تجنّب الاصطدام بمصر، وبالتالي تحويل الغضب في اتجاه إسرائيل.
وفي المحصلة لا بد انّ بومبيو قرأ جيداً معاني هذه الرسائل وهو الذي يمهّد لجولته بكلام عالي السقف. وبالتأكيد أنه قد لا يُعدّل من لهجته كثيراً، لكن المطلوب قد يكون إدخال تعديلات ما على المشروع الذي يحمله.
ولبنان بدوره يدخل في اطار التجاذب القائم، ولو أنّ الرسائل غابت عن ساحته. سيسمع بومبيو في بيروت مجدداً أنّ ترسيم الحدود البحرية يجب أن يحصل بالتوازي وفي الوقت نفسه مع ترسيم الحدود البرية والتي تختزن كثيراً من العقد والتشابك. اللهجة الأميركية قد تبقى مرتفعة لكنّ الاتّجاهات الفعلية للأمور تنحو الى الواقعية ولو بمفردات حادة.