IMLebanon

مقولة «العصور الوسطى» ومشكلات الحاضر

 

في كل أزمة كبرى في حاضر العرب والمسلمين، تعود قصة العصور الوسطى، وانحطاط الألف عام في تاريخ الإسلام والمسلمين.

والمقولة في الأصل من ابتداع مؤرخي الحضارة الأوروبية، إذ زعموا أنّ أوروبا انقطعت منذ القرن الخامس الميلادي عن حضارتي اليونان والرومان، وسيطر فيها وعليها الكنيسة والإقطاع حتى القرن الخامس عشر؛ وبذلك فقد سادت فيها الظلمات على المستويات الفكرية والدينية والسياسية والحضارية. وما تخلصت أوروبا من ذلك كله إلاّ بالكشوف الجغرافية والإصلاح الديني والاستمداد من الحضارة الإسلامية. وما تزعزعت هذه الفكرة عن الماضي الأوروبي إلاّ من خلال أعمال مؤرخي مدرسة «الحوليات» الفرنسية في القرن العشرين.

لكن في الوقت الذي كانت فيه مقولة الظلامية الحضارية تنجلي عن التاريخ الأوروبي الوسيط؛ كانت تلك المقولة ذاتها تنتقل وتترسخ وتثبت في الأفكار والأعمال (العلمية) عن الحضارة الإسلامية! وقد بدا ذلك منذ زمنٍ بعيد. ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعندما ظهرت حركات المقاومة الأولى ضد الاستعمار الأوروبي، سارع الاستراتيجيون الاستعماريون إلى وسْم كل حركات المقاومة بأنها من نتائج الحقبة الطويلة للانحطاط في عصور الإسلام الوسيطة، وإلاّ فكيف يُسمّي المقاومون أعمالهم جهاداً، شأن الحروب المقدسة التي كان الصليبيون يشنونها على المشرق. وقد بلغ من تجذر هذا الانطباع أنّ رجالاً مناضلين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لجأوا في الدفاع عن الإسلام للقول إنّ الدين براءٌ من مظاهر وظواهر العنف والانحطاط السائدة في حياة المسلمين وأعمالهم! ولدينا اليوم عشرات الكتب والأبحاث التي تدافع عن فكرة دفاعية الجهاد أو عدم وجوده، حتى قبل ظهور الإحيائيات والجهاديات بزمنٍ طويل.

وكانت الأزمة الثانية التي برزت خلالها من جديد مقولة الانحطاط، أو عدم وجوده، هي الصراع على فلسطين. «فاليهود أُناسٌ مظلومون، عملوا على استعادة وطنهم الذي فقدوه قبل أكثر من ألفي عام»، وبالأساليب الحضارية التي تعلموها من الغرب في زمن الدولة القومية، والمقرر أنه ينبغي أن يكون هناك لكل شعب وطنٌ ودولة، وإنما يأبى العرب والمسلمون عليهم ذلك، بسبب الانحطاط الطويل في تاريخهم وتفكيرهم الديني، الذي يشنّون به حرباً دينية على القومية اليهودية التقدمية. ولو خرجوا من أَسْر ذاك الانحطاط لأفادوا من النهوض التنويري الإسرائيلي، والديمقراطية المتعملقة في الدولة العبرية الحديثة!

وهذه الفكرة ذاتها، أو المقولة ذاتها، تحولت إلى قناعة عميقة في أوساط المثقفين العرب الذين حملوا طوال أربعين عاماً وأكثر على موروث أو مواريث عصر الانحطاط الحضاري، أرادوا في مشروعات فكرية شاسعة تحرير المسلمين من وطأة مواريث التخلف، التي مدَّها بعضهم إلى الوراء… استبدادية الدولتين الأُموية والعباسية بل حتى إلى صدر الإسلام.

وعلى هذه المقولة ذاتها عزف برنارد لويس المستشرق الكبير الذي ترك التأريخ للإسماعيلية وللدولة العثمانية، وانصرف لتحليل ظواهر «الغضب الإسلامي» الذي ولّد عنفاً هائلاً هو من صناعة الانحطاط الطويل، الحاقد على العملاق الحضاري الأوروبي والغربي.

وعندما انفجر العنف باسم الإسلام بالفعل، صارت هذه المقولة مسلَّمة يعْسرُ الخروجُ منها حتى من جانب أشدّ خصومها حماساً من الأوروبيين والأميركيين والآسيويين. لقد سرى في أوساط المستشرقين والاستراتيجيين الجدد، التحليل المعروف بشأن صراع الحضارات، وعدوانية الحضارة الإسلامية. وما عاد الأمر قاصراً على الألف عام. ويمدون تطاولهم على القرآن نفسه. وسلوك المسلمين الفاتحين الأوائل. وقد حصلت بعض الانفتاحات على الحضارة الكلاسيكية في زمن العباسيين، ثم عاد الباب للانقفال بإدانة «علوم القدماء» وسواد الأرثوذكسيات المتشددة، التي انطلقت من جديد من الظلام لتدمِّر العالم!

لقد أردتُ من بعد هذه المقدمات والانطباعات الحاضرة، أن أعرضَ كتاباً للدارس الألماني توماس باور Th. Bauer صدر عام 2018 وعنوانه: لماذا لم تكن هناك «عصور وسطى إسلامية»؟ وهو يبدأ كتابه بعرض البحوث التي زعزعت مقولة عصور الظلام في أوروبا، ليعتبر أنّ القطيعة التي حدثت في أوروبا الوسيطة ما كانت كبيرة، وأنّ الذي خفّف من وطأتها هو النهوض الحضاري الإسلامي. فالأزمنة الحضارية الكلاسيكية التي كافحتها المسيحية الجديدة، جرى قبول كل مواريثها الثقافية والعلمية والحضارية لدى المسلمين، ولقيت تطويراً كبيراً بل كان هائلاً، بدأ نقله وانتقاله إلى أوروبا في القرن الثاني عشر وربما قبل ذلك. وهو يتابع هذه «الاستمرارية» الحضارية في كل شيء: العمارة، وسكّ النقود، وبناء المساجد، وأقنية الري، وبحوث الفلك والإسطرلاب، والطب، والهندسة، وحتى التفكير الديني والبحث اللغوي والأدبي. وهو يذكّر في هذا الكتاب الجديد، بكتابه القديم عن التعددية في الفكر الإسلامي الوسيط، ومن علوم القرآن وتفسيره، وإلى النقد الأدبي، وعلوم الفلك والرياضيات.

ويتعجب باور، كيف لم تؤثّر بحوث تاريخ العلوم البحتة والتطبيقية عن الحضارة الإسلامية طوال مائة عامٍ على تاريخ الأفكار والتاريخ الحضاري للإسلام والمسلمين. وكيف يستطيع هذا الكاتب أو ذاك أن يتحدث عن «وحشية» الإسلام أو المسلمين، وإنما حدث التأزم الحضاري بالفعل في زمن تفاقم الاستعمار والهيمنة. فحتى القرن التاسع عشر – وماكنيل وهودجسون يقولان: حتى الثامن عشر – كانت الحضارة الإسلامية لا تزال تنتج علماء في الفلك والطب وفي النظريات اللاهوتية والكلامية. زمن التأزم الذي ظهر نتيجة سحق الحضارة وفشل تجربة الدول القومية في القرن العشرين، نشر هذا التمرد الانتحاري، الذي صارت تمردات «الخوارج» والقرامطة بالمقارنة معه لعبة أطفال!

يذكر توماس باور ليس في الكتاب الأخير، بل في كتاب الالتباس والتعددية نموذجاً طريفاً لما يعنيه بالراحة والانفتاح في حضارة المسلمين وعلومهم في الحِقَب الوسيطة. والنموذج مأخوذ من مناهج مفسِّري القرآن. فالآيات الثلاث في مطلع سورة العاديات وهي: «والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً فالمغيرات صبحاً»؛ يذكر كل مفسِّري القرآن الكبار طوال ثمانمائة عام عدة معانٍ لكل مفردة من مفرداتها؛ ومن الخيل إلى المجاهدين إلى الملائكة إلى الدعاة للإسلام، إلى صُنّاع المعروف. وعندما يفضّل مفسِّرٌ أحد هذه المعاني لهذه المفردة أو تلك؛ فإنه لا يُنكر على زميله إيثاره لمعنى آخر، ولا يعتبر أنّ هذه التعددية تعني أنّ الخطاب الإلهي لم يعد معروفاً أو واضحاً. ثم يقتبس باور من مفسرين مسلمين مُحدَثين اتجاهاً مختلفاً تماماً. فكلٌّ منهم يختار معنى واحداً يقول من خلاله إنّ خطاب الله ينبغي أن يكونَ ذا معنى واحد، وأن يكون مفهوما لكي يتعاطى معه المؤمنون ويعملوا به. ويعقِّب الكاتب: نعم، هؤلاء المفسرون وكلهم متشددون هم من نتاج الحداثة الديكارتية التي تتقصد اليقين، ولا تقبل الاختلاف وتعتبره تشكيكاً في المقصد الأوحد للواحد الأحد!

في كل حدثٍ مؤْسٍ أو فادح يقع للمسلمين من أنفسهم أو من غيرهم، يعود حديث هؤلاء عن أُطروحات الانحطاط وأُصولية الإسلام وما يدعونه من عنفه للظهور. وهو أمرٌ ما عاد يُطاق في نظر كثيرين من الدارسين الغربيين، وسواء أكانوا من علماء الدراسات الإسلامية أو من الاستراتيجيين. وقبل أيام وعندما قتل رجل ساطع البياض في الولايات المتحدة بضعة عشر يهودياً في كنيس، علّق نمساوي يميني: هذا أمر غير معقول، فالرجل إمّا مجنون أو من أصول إسلامية! وعندما كنتُ أُثني على كتاب باور أمام الأستاذ المعروف بجامعة كولومبيا وصاحب كتاب: الحضارة المسيحية – الإسلامية ريتشارد بوليت، ضحك وقال: أعرف كتاباً آخر له، وهو يسبح عكس التيار، وبحسب منطق الراحل برنارد لويس ومارتن كرامر وأشباههم: إذا لم تكن هناك عصور وسطى ظلامية في الإسلام، فينبغي أن نوجدها!