يمتحن الرقص على حبال الشرق الأوسط مهارات اللاعبين.
النقلات سريعة، والحبال تهتز بأشد مما اعتاد الراقصون عليها، والكل يلعب بلا شبكات حماية جدية تتلقف الساقطين نحو حتفهم.
فلاديمير بوتين يجتهد «لتنظيف» سوريا من «أعدقائه» الإيرانيين والأتراك.
يوم دُفن قائد «الحرس الثوري» قاسم سليماني الذي قُتل في بغداد آتياً من مطار دمشق الواقع تحت سيطرة موسكو، ظهر بوتين في سوريا مستدعياً رئيسها إلى قاعدة حميميم. لا بد أنه تذكر الاجتماع التاريخي مع الجنرال المقتول، يوم أتاه إلى موسكو طالباً نجدة روسيا كي لا يسقط نظام الأسد وتُهزم إيران فيها، وأقنعه بالتدخل.
هو الآن سيد سوريا، بينما إيران تشيع «والي الشام».
فوق هذا، من غير المفهوم ما هي حدود قدرة أو رغبة روسيا في مواجهة سياسات الضربات الإسرائيلية لإيران وميليشياتها في سوريا، والتي تصاعدت في الفترة الأخيرة، مستهدفة عدداً من كبار ضباط «الحرس الثوري». تعترض موسكو علناً وتستنكر عبر تصريحات وبيانات؛ لكن التنسيق الميداني بينها وبين إسرائيل يسير دون مواجهة أي عقبات.
كما أن التنسيق السياسي بين الطرفين لا تنافسه أي علاقة أخرى تجمع بين موسكو وأي من اللاعبين الآخرين في الشرق الأوسط.
ويعد رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو أكثر شخصية دولية التقت بوتين، بينها أربع زيارات إلى موسكو العام الفائت وحده. في حين زار بوتين إسرائيل مطلع العام الفائت للاحتفال باليوبيل الماسي لتحرير السوفيات معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة، إبان الاحتلال النازي لبولندا. فإسرائيل هي الحليف «الغربي» شبه الوحيد الذي يتكل عليه الكرملين لمواجهة العزلة الأوروبية، كما لكسر السردية الأوروبية عن الأدوار التخريبية لروسيا من القرم إلى شرق المتوسط.
بيد أن حاجة بوتين لإيران أكيدة في الوقت نفسه، وإن كان يسعى لتقليص نفوذها في سوريا، تماماً كما حاجة إيران إليه، أقله بسبب الرهاب المشترك بين الاثنين من الهيمنة الأميركية، ومساحات التعاون المتوفرة بينهما للشغب على النفوذ الأميركي.
ولا يقل الراقص الإيراني مهارة عن الروسي. فبالتزامن مع حال الصدمة في الرأي العام الإيراني من شبه الصمت الروسي على مقتل سليماني، اندلعت في طهران معركة أكاديمية نتيجة تنقيح الكتب المدرسية، على نحو يزيل كثيراً من العبارات المعادية لروسيا، وتقديم التاريخ المعقد لاحتلال الإمبراطورية الروسية لبلاد فارس، بشكل ينسجم مع العلاقات الروسية الإيرانية المعاصرة.
يبقى الرقص الأكثر إثارة للانتباه هو «التانغو» المعقد بين روسيا وتركيا على مسرح إدلب السوري.
باعدت الأزمة السورية بين أنقرة وواشنطن، نتيجة دعم الأخيرة للمقاتلين الأكراد ضد نظام بشار الأسد، وقربت بين أنقرة وموسكو بعد فصل تصعيدي خطير في أعقاب إسقاط أنقرة طائرة «سوخوي» روسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. كشفت تداعيات حادثة الـ«سوخوي» حدود الاستعدادات الغربية للدفاع عن تركيا وحمايتها كعضو في حلف الـ«ناتو»، وفاقمت شكوك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في جدوى التموضع غرباً. زادت الأمور تعقيداً بعد محاولة الانقلاب في تركيا صيف 2016، وشعور إردوغان بأن لواشنطن دوراً فيها، عبر رعايتها وحمايتها للداعية الإسلامي فتح الله غولن، ما دفعه لاعتقال القس الإنجيلي الأميركي أندرو برانسون، مستدرجاً حرباً اقتصادية وعقوبات على بلاده، أدت إلى مزيد من انهيار العملة التركية، قبل أن يرضخ إردوغان لضغوط البيت الأبيض ويطلق سراح القس.
وقد أحسن بوتين استثمار لحظة محاولة الانقلاب بوقوفه إلى جانب «الحكومة الشرعية» خلافاً لعموم الموقف الغربي. أما إردوغان فلطالما شعر أن فائض «الغربنة» يقف عائقاً أمام شهواته لنظام سياسي سلطوي متخفف من ضوابط الديمقراطية ومثالياتها، وهو ما يتطلب الابتعاد أكثر عما يتوقعه الغرب من تركيا.
لم يكتفِ إردوغان بتطوير العلاقات السياسية مع موسكو على حساب علاقاته الغربية والأميركية السابقة؛ بل ذهب إلى إدخال الصواريخ الروسية «إس 400» إلى واحدة من حواضر حلف الـ«ناتو»، مضحياً بدور تركيا في تطوير بعض قطع الطائرة «إف – 35» الأميركية!
ما لبثت الخلافات الأخيرة التي اندلعت في سوريا أن أنهت «شهر العسل» بين تركيا وروسيا، وأعادت «الابن الضال» إردوغان للبحث عن طريق العودة إلى البيت الأبيض.
تتهم موسكو تركيا بأنها لم تفِ بالتزامها مكافحة «جبهة تحرير الشام» (جبهة النصرة) في منطقة خفض النزاع في إدلب، المتفق عليها في سوتشي عام 2018. وتتهم تركيا روسيا بأنها تسعى لتمكين الأسد من الإمساك بكامل سوريا، خلافاً لاتفاق سوتشي.
وإذ تفترق المسارات بين تركيا وروسيا في سوريا، تلتقيان في ليبيا على دعم حكومة فائز السراج في طرابلس الغرب، في حين يحتفظ اللاعب الروسي لنفسه بخيوط ممدودة مع المشير خليفة حفتر، المدعوم فرنسياً، من خلال غضه الطرف عن ميليشيات روسية تقاتل إلى جانبه ضد حكومة السراج!
أما المفارقة التي يستفيد منها الراقص التركي، فإن واشنطن التي سبق واعترضت على مغامراته العسكرية في شمال سوريا ضد الأكراد، ووصلت إلى حد فرض عقوبات على وزراء أتراك، تعبر عن تفهمها للأدوار العسكرية التركية في إدلب.
تحتاج واشنطن لبقاء تركيا في اللعبة السورية، كي لا تنفرد موسكو بتقرير ميزان القوى، وتعكس ذلك لاحقاً على طبيعة التسوية السياسية في سوريا.
مع ذلك، يعرف إردوغان أيضاً أن ما يلقاه من واشنطن حتى الآن لا يتجاوز الدعم اللفظي، وأن قائمة المطالب الأميركية منه ليست بسيطة، وأبرزها اثنان؛ إلغاء اتفاق منظومة الصواريخ «إس 400» مع روسيا، والموافقة على دور سياسي للأكراد في الدستور السوري الجديد، ما يعني أن رقصه على الحبال يتطلب مهارات أكبر من بقية اللاعبين، لا سيما الرقص على الحبل المشدود بين موسكو وواشنطن، الذي يمر فوق تعقيدات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، والأهم فوق حروب الأنابيب في شرق المتوسط.