IMLebanon

هواجس صفقات و»تلزيم» للبنان

 

في مطلع العام 1990، كان جورج بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة. وكانت قوى الضغط اللبنانية تطالبه بأن تفعل الولايات المتحدة شيئاً لإنهاء الحروب العبثية التي كانت تفتك باللبنانيين، وبالمسيحيين خصوصاً.

ولكن، في آب من ذلك العام، قام الرئيس العراقي صدّام حسين باجتياح الكويت. وأقرَّ الأميركيون عملاً عسكرياً لإخراج صدام منها. وعندما بحثوا عن تغطية عربية لهذه المهمّة، جاءتهم الموافقة من الرئيس السوري حافظ الأسد.

 

وفي المقابل، سوَّق الأسد رعايته للحلّ في لبنان. فوافق بوش من ضمن الصفقة. وهكذا، تمّ تلزيم سوريا الأسد رعاية الملف اللبناني، تحت إشراف أميركي ودولي، وجرى إقناع العرب بالموافقة على ذلك وبالتمويل. ودخل الملف اللبناني في «البرّاد السوري» بشكلٍ مُحْكَم، وحتى العام 2005، عندما فرضَت معطيات أخرى على جورج بوش الإبن أن يبدِّل ما صنعه بوش الأب.

 

اليوم، يتذكّر كثير من اللبنانيين مرحلة الأب والإبن، ويستنجدون بالروح القدس!

 

ويحقّ لهم ذلك، من شدّة خشيتهم تكرارَ التاريخ. والتاريخ يعيد نفسه مرتين: الأولى بشكل مأساة، والثانية بشكل ملهاة، كما يقول كارل ماركس.

 

ما الذي يدفع اليوم إلى هذه الخشية في لبنان؟

 

هناك «مناخٌ انتقالي» يسود العالم، والشرق الأوسط تالياً، يشبه مناخ تلك الفترة من القرن العشرين. فالحرب الباردة كانت آنذاك على وشك الحسم لمصلحة الغرب، وعلى حساب المنظومة الاشتراكية التي بدأت تنهار، البلد تلو الآخر، حتى سقط الاتحاد السوفياتي.

 

كان «يتامى» الاتحاد السوفياتي من العرب يبحثون عن ملاذ بديل. ووجد بعضهم سبيلاً لتثمير الخطوط المفتوحة مع الغرب، أو لفتح خطوط جديدة، وعمدوا إلى مساومته وعقد الصفقات معه. ومن هؤلاء حافظ الأسد الذي استخدم مجموعة أوراق ثمينة كان يخبئها لـ»اليوم الأسوَد»، ومنها: لبنان، لمساومة الغرب وإسرائيل، الفلسطينيون لمساومة إسرائيل، والأكراد لمساومة تركيا…

 

اليوم أيضاً، المرحلة انتقالية على مستويات عدّة:

1- انتقالية في الولايات المتحدة بين نهجين نقيضين في فلسفة السلطة، وفي السياسة والاقتصاد: ترامب وبايدن.

2- انتقالية في الشرق الأوسط من حروب «الربيع العربي» والأنظمة والخرائط إلى سلام التطبيع بين إسرائيل والعرب.

3- انتقالية دولياً، من مناخات التصادم و»الضغط الأقصى» بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا وإيران من جهة أخرى، إلى مرحلةٍ أخرى لم تبدأ معالمها بالتبلور، حتى الآن.

 

نتيجة لكل ذلك، لبنان أيضاً في وضعية انتقالية: مِن جمهورية 1943 التي تمّ ترميمها مرتين (في الطائف 1989 والدوحة 2008) إلى «جمهورية المؤتمر التأسيسي» الذي قد يكون هو نفسه المؤتمر الدولي، أو يكون شبيهاً له أو بديلاً منه.

 

ما يثير الخشية على لبنان اليوم هو أنّه ماضٍ سريعاً في وضعية التفلُّت، على مختلف الصعد، ما يجعله سفينة بلا بوصلةٍ ولا ضوابط، تتخبَّط في كل الاتجاهات. وهذا ما يثير قلق بعض القوى الدولية والعربية، التي اعتادت مساعدة لبنان، ويدفعها إلى البحث عن أي وسيلة لمنع تحويل لبنان بؤرة تفجير تهدِّد استقرار دول في الشرق الأوسط، في مقدّمها إسرائيل.

 

وفي ظلّ الانشغال الأميركي في تركيز المواجهة على الصين وإيران، وبدرجة أقل روسيا، قد يبدو الملف اللبناني مجرَّد تفصيل صغير مزعج في استراتيجية التحرُّك الأميركي. وثمة خوف من لجوء العديد من القوى الإقليمية إلى استثمار حال التفلّت هذه لإجبار المجتمع الدولي على تلزيمها الحلّ اللبناني.

 

هذا الاحتمال يبدو ضئيلاً جداً في نظر البعض، لأنّ الأسد نفسه لا يكاد يستطيع تثبيت سلطته في سوريا. ولكن، هناك من لا يستبعد قيام الأسد الإبن فعلاً بمحاولةٍ للحصول على «تلزيم لبنان» من إدارة بايدن، كما فعل الأسد الأب مع بوش الأب، إذا قدَّم ثمناً معيناً في المقابل. ومن الأمثلة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، برعاية روسية قبل أن تكون أميركية.

 

ولذلك، سيكون مناسباً تحييد لبنان عن صراعات المحاور في الإقليم، من أجل توفير استقراره الداخلي وتجنيبه الوقوع مجدّداً في قبضة «المتعهِّد» أو المتعهِّدين الدوليين والإقليميين.

 

وفيما لم تشغِّل إدارة بايدن محرِّكاتها في الشرق الأوسط، يبدو لافتاً أنّ موسكو تستنفر قواها في المنطقة بشكل سريع واستثنائي، وهي تفتح الخطوط على الجميع، أعداء كانوا في ما بينهم أو حلفاء. وفي هذا الحراك، ليس مستبعداً أن تعقد صفقات تتناول الملف اللبناني أيضاً.

 

ولكن، ما يسابق الجميع هو الشارع. وفي تقدير كثيرين أنّ ارتفاع السخونة فيه سيسبّب أوجاعاً عاتية وخراباً عظيماً، لكنه أيضاً سيتكفّل بتقريب النهايات… سعيدةً كانت أو بائسة.