لا تزال إسرائيل تحت وقعِ الصدمة التي أحدثها الرئيس الأميركي باراك اوباما في قاعة مجلس الأمن الدولي بعد صدور قرار يدعو إسرائيل إلى وقفِ سياسة الاستيطان.
في تاريخ الرؤساء الأميركيّين لم يحصل أن ذهَب أحدهم في انتهاج سياسة واتخاذ قرارات قبل أسابيع قليلة من مغادرته البيتَ الأبيض، بهذه القوّة وبنحوٍ يُناقض سياسةَ خليفته.
وهذه ليست الخطوة الوحيدة التي سيكتفي بها أوباما، فهو طلبَ من وزير خارجيته جون كيري المشاركةَ في المؤتمر الدولي الذي سيُعقد في باريس منتصف الشهر المقبل وتحديداً قبل خمسة ايام من تسلّم دونالد ترامب سلطاته الدستورية رسمياً للبحث في النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. لكنّ اللافت أنّ كيري سيتقدم بخطة جديدة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيّين على أساس «حلّ الدولتين» وبما يُكمّل قرارَ مجلس الأمن الذي يُلزم إسرائيل بوقفِ الاستيطان.
وكما نجح أوباما في إرساء قرار دولي من الصعب جداً نقضُه أو العودة عنه حتى لو حاولَ خلفه القيامَ بذلك، لأنّ الشروط صعبة وغير قابلة للتحقيق، فإنّه يسعى من خلال مؤتمر باريس لتركيز أسس التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية.
ولا شكّ في أنّ أحد جوانب هذا الكباش له علاقة بالنزاع الأميركي الداخلي العنيف والذي تفاقَم ليصل إلى حدود متقدّمة، مع إعلان فوز ترامب بالرئاسة. يُقال إنّ ترامب الذي خاض معركته الرئاسية بتمويله الخاص وضَع نفسَه حكماً في مواجهة شبكة المصالح الكبرى المكوّنة من شركات عملاقة والتي تتحكّم بالقرار الأميركي بعدما كانت تتولّى تمويلَ الحملات الانتخابية للمرشّحين لتفرضَ نفسَها مؤثّراً في إصدار القرارات.
لذلك هناك قوى دولية مَثلاً تُراهن على غرَق ترامب في النزاعات الداخلية الأميركية التي من المتوقع أن تبرز إلى العلن للمرّة الأولى منذ عقود عدة قبل أن يستطيع فرضَ رؤيتِه للسياسة الخارجية والتي تبدو بدورها مثيرةً للجدل.
من هنا ربّما تكون إدارة اوباما والتي تُعدّ آخر أيامها، تُراهن على إلزام إدارة ترامب بمشروعها حيال التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية وهي متفاهمة ومتوافقة في نظرتها هذه مع العواصم الأوروبية ودولٍ أخرى.
ومعارضة إسرائيل للمشروع الذي سيتقدّم به كيري متوقَّعة، لا بل محسومة. وتضيف أوساط ديبلوماسية فرنسية أنّها سمعَت رفضاً مماثلاً من الفريق المحيط بترامب والذي أشار إلى أنّ محاولةَ تطويق ترامب وتقييده ستَدفعه إلى نقلِ السفارة الأميركية إلى القدس.
ووفقَ معلومات مصدر ديبلوماسي أميركي معني بالشرق الأوسط، فإنّ فريق ترامب كان قد أرسَل وفداً له كَشَف سريعاً على مبانٍ صالحة في القدس لنقلِ السفارة الأميركية إليها، وهناك اتّجاه لاعتماد أحدِها وهو يقع على مسافة قريبة من القنصلية الأميركية في المدينة.
لكنّ الفريق القريب من الإدارة الحاليّة، حذّر فريقَ ترامب من أنّ نقلَ السفارة إلى القدس يُعتبر مغامرةً غير محسوبة قد تضرّ بالمصالح الأميركية، إضافةً إلى أنّها ستفتح الباب على موجةِ عنفٍ جديدة في المنطقة خصوصاً أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ينوي تحدّي قرار الأمم المتحدة والسعي لاستكمال بناء 600 وحدة سكنية من ضمن مشروع لآلاف المساكن الجديدة.
وفيما يسعى أوباما أيضاً إلى توجيه ضربةٍ لروسيا قبل رحيله بالإعلان عن حزمةِ عقوبات أميركية ضدّها، وهي الحليف الأول لترامب كما هو متوقّع، انتقلَ الضغط إلى مصر التي لديها التأثير الأول على الساحة الفلسطينية.
ذلك أنّ الأوساط الديبلوماسية تتحدّث عن تدخّلٍ مباشَر لترامب مع الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي لسحبِ مشروع إدانة إسرائيل، والذي استجاب وهو الموعود بأن يكون الشريك العربي الأوّل للولايات المتحدة الأميركية في حقبة ترامب.
ووصَف النائب الجمهوري الأميركي دانا روراباخر، السيسي بأنّه الصديق الحقيقي لبلاده بعدما سحبَ مشروع إدانة اسرائيل، معتبراً أنّ السيسي هو دعامة أساسية للأمن الأميركي.
وأهمّية كلام روراباخر أنّه يُعتبَر من الحلقة القريبة لترامب، وهو كان قد ورد اسمُه في اللائحة الصغيرة للمرشّحين لتولّي وزارة الخارجية. لكنّ مصر التي تعاني من تصاعدِ العمليات الإرهابية ومن أزمة اقتصادية حادّة تفاقمت أخيراً لتصل إلى قطاعات حسّاسة مِثل الدواء حيث فقِدت أدوية أساسية من الأسواق، تُعوّل على دعمٍ أميركي نوعيّ، لكنّها في الوقت نفسه تستعدّ لتصاعدِ العنف على خلفيات كلّ هذا التشابك الإقليمي. أضِف إلى ذلك تَحسُّس السعودية من السعي إلى تحجيم دورها الإقليمي، حيث يأمل السيسي في استعادة بلاده قيادةَ العالم العربي.
وخلال المؤتمر الأخير لحركة «فتح»، رفضَ محمود عبّاس طلباً مصرياً بإتمام مصالحة مع محمد دحلان، لا بل إنه رفضَ طلباً آخر باحتضان المحسوبين عليه، وهو ما فُسّر بأنّه جاء بتشجيع سعودي وللحدّ من طموح السيسي.
الاعتراض السعودي ظهَر أيضاً في سوريا بعدما أضحت السعودية عملياً خارج إطار التأثير في التسوية السياسية التي تتولّاها روسيا.
ذلك أنّ خريطة تقاسُم النفوذ باتت أكثرَ وضوحاً ما بين تركيا وإيران وسعي الأكراد للتعويض في الرقة، فيما تريد روسيا تكريسَ دورها مرجعاً ملزماً للجميع مع إمساكها بالمنطقة الساحلية ومفاتيح القوّة داخل الجيش، وتسليم تركيا الكامل والمطلق بالمرجعية الروسية إضافةً إلى تفاهمٍ وتحالفٍ استراتيجي مع إيران.
أمّا لبنان ولسوءِ حظّه، أو بالأحرى لسوء عددٍ من قياداته السياسية، فهو يختزن داخل ساحته الهشّة كلَّ هذه التناقضات والعوامل المتشابكة.
فلسطينيون مسلّحون ومختلفون، ونازحون سوريون يتوزّعون الولاءات ومخترَقون أمنياً، ونفوذ سياسي متنوّع للقوى الإقليمية.
في مواقف نادرة نشرت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ تِسع دولٍ تملك أكبر ترسانات للأسلحة النووية وبينها إسرائيل التي تملك 80 رأساً نووياً. هذا يعني أنّ النزاع في الشرق الأوسط سيشتدّ أكثر على وقعِ مشاريع التسويات السلمية.