يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في كتابه: «المتوسط والعالم المتوسطي في زمن فرديناند الثاني» ما حرفيته: «لقد أحببت البحر الأبيض المتوسط بقدر كبير من الشغف، ربما كان ذلك لأني آتٍ من الشمال، مثل آخرين كُثر وبعد آخرين كُثر…».
ولعل تلك الجملة الواردة على لسان أحد أهم كتّاب مدرسة الحوليات، تظهر أهمية المتوسط والشرق الأوسط بالنسبة للفكر الغربي والأوروبي، والذي يعود الاهتمام به الى أزمنة غابرة.
غالباً ما تدور الصراعات بين الدول والقوى العالمية حول بقعة جغرافية معينة، والشرق الأوسط كبقعة جغرافية وليس بالضرورة كمصطلح سياسي شكّل نقطة الثقل في الصراعات بين القوى العظمى عبر تاريخه.
فالحروب الصليبية كان محورها فلسطين وهي نقطة الارتكاز في الشرق الأوسط، استناداً الى موقعها الجغرافي وإرثها الديني، والصراع بين الدولة العثمانية ودولة المماليك إنما تمّت رحاه في هذه البقعة الجغرافية، والذي انتهى بانتصار السلطان سليم في معركة مرج دابق في العام 1516، وسيطرة الدولة العثمانية على طرق التجارة العالمية حينها.
إن الصراعات والحروب التي دارت في الشرق الأوسط محورها الثروات والممرات المائية وطرق التجارة العالمية، ومنذ القرن التاسع عشر فإن الحروب كانت قائمة على التوسّع الجغرافي، وقد تجلّى ذلك بداية من خلال حملة محمد علي باشا الشامية، وتوضح أكثر بعد سقوط الدولة العثمانية والتسابق بين القوى العظمى حينها على اقتسام الإرث العثماني جغرافياً فيما بينها، خاصة المناطق الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، فضلاً عن تلك التي تتمتع بمواقع استراتيجية ومحورية في المسارات التجارية. إضافة الى نقاط تميّز مرتبطة بالطابع الديني لتلك المناطق.
لأجل حماية مصر تاريخياً كان لا بد من ربطها ببلاد الشام في إطار سياسي واحد، وبعد انتهاء العمل بشق قناة السويس في العام 1869، زادت أهمية مصر في حركة التجارة الدولية المتجه بين الهند وأوروبا، ما مهّد لاحقاً لاحتلالها من قبل بريطانيا في العام 1882.
وهنا كانت الطامة الكبرى التي تمثلت باصطناع كذبة توراتية اسمها وطن اليهود وحقهم التاريخي في أرض كنعان. وذلك لفصل مصر عن بلاد الشام وتأمين طرق التجارة البريطانية باتجاه الهند وحماية مصالحها في قناة السويس وطرق التجارة المذكورة.
علماً أن حملة نابليون على مصر التي سبقت شق قناة السويس كانت تستهدف أمرين: احتلال مصر والزحف بعدها إلى فلسطين وبلاد الشام عامة، في هدف إستراتيجي يتمحور بالاقتراب برياً من بلاد فارس والهند.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت قد بدأت فعلياً زراعة كيان في فلسطين يفصل بين ضفتي العروبة والإسلام مصر الأفريقية وما تشكّله من مطلّات جغرافية هامة على القرن الأفريقي، وبلاد الشام وما تشكّله من عمق جغرافي يربطها بتاريخها وحضاراتها وتنوّعها بجوار ثري ماديًّا وثقافيًّا.
عند دخول الشرق الأوسط تحت سلطة القوى العظمى عقب مؤتمرات الصلح، كان الهدف المعلن وصاية على منطقة متخلّفة، وأخذها الى مصاف الأمم المتقدمة، لكن الهدف الحقيقي هو في الأساس المصالح الاقتصادية المتمثلة في السيطرة على الموارد والثروات.
المرحلة الثانية من السيطرة تمثلت بإعلان الكيان الصهيوني دولته على أرض فلسطين، في سعي لاستغلال الموقع الجغرافي لإدارة الشرق الأوسط.
منذ العام 1948، ومنطقة الشرق الأوسط غير مستقرة، وقد يكون عدم استقرارها فعلياً يعود الى العام 1840، وقد يكون للجغرافيا دوراً بارزاً في عدم الاستقرار هذا، بالنظر الى تم إعلانه في العام 1948 من إعلان كيان على أرض لا يرتبط بها بالمطلق.
استعملت مصطلحات عديدة لتوصيف ما يمرّ الشرق الأوسط من حروب وأحداث، ربطها البعض بالطابع الديني المرتبط بكون هذه البقعة الجغرافية هي مهد الديانات، كما تم ربطها بالطابع الاقتصادي وما تختزنه هذه المنطقة من ثروات، ولعل المشترك بينها جميعاً هي جغرافية هذه المنطقة، فموقعها أسال اللعاب إليها، كما ان سحرها جذب الغرب نحوها.
لم تمرّ منطقة جغرافية في العالم بما مرّ به الشرق الأوسط من أزمات وحروب، ولم تعانِ شعوب ما عانته شعوب هذه المنطقة..
هل هي لعنة الموقع، أم هو سحر الجغرافيا؟