تجاوزت الموجة الجديدة الكبيرة من اللاجئين الى الدول الاوروبية معيارين للتعامل الخارجي مع هذه الازمة: المعيار الاول هو الذي بني على مساع وجهود بذلتها المراجع الروحية المسيحية في الشرق الاوسط بعد اشهر قليلة من بدء الازمة السورية في 2011 وعقب استيلاء تنظيم داعش في العراق على مدن رئيسية كالموصل وسواها ما ادى الى تهجير اعداد كبيرة من الاقليات من الايزيديين والمسيحيين وسواهم. بذلت جهود جمة من أجل عدم تشجيع الدول الغربية على فتح ابواب الهجرة امام الاقليات المسيحية خصوصا للحؤول دون تركهم ارضهم وبلادهم ما يؤدي الى تفريغ المنطقة من المسيحيين واقتصر استقبال بعض الدول على عدد محدود من العائلات خصوصا من بين هذه الاقليات. واسقط اذا في يد المراجع الروحية المسيحية التي لم تعد تستطيع الكثير ليس في ظل هرب الاقليات وهجرتها وفتح الابواب امامها بل أيضاً امام هجرة كبيرة من الاكثرية غير المسيحية على ما اظهرت اعداد اللاجئين الذين فتحت لهم ابواب النمسا وبريطانيا والمانيا وسواها من الدول الاوروبية. وبالامس طلب الكرسي الرسولي من كل رعية في اوروبا استقبال اللاجئين. اذ لا ضمانات يستطيع اي بلد أو اي مرجعية تقديمها لهذه الاقليات من أجل البقاء لمجرد ضرورة عدم افراغ المنطقة من الاقليات مسيحية كانت أو سواها على رغم الفظاعة الذي يمثلها غياب التعددية الطائفية عن المنطقة.
المعيار الثاني هو المؤتمر الذي تستعد الامم المتحدة لعقده غدا في باريس حول الاقليات في الشرق الاوسط والذي كان تقرر في اذار الماضي بعد نقاش في مجلس الامن. وغاية المؤتمر البحث في السبل والوسائل من أجل تأمين عودة الاقليات المضطهدة في المنطقة عبر العمل على اعادة اعمار مناطقهم واماكن عبادتهم. فهذا المعيار لم يعد ينطبق على ما حدد من هدف للمؤتمر انطلاقا من ان اوروبا وجدت نفسها امام موجة هجرة كبيرة لم تعد تستطيع صدها في ضوء المآسي التي تعرض لها اللاجئون وكان آخرها صورة الطفل ايلان كردي الذي قذفه البحر على شاطئ تركيا، علما ان هذا المعيار اي اعادة الاقليات الى اماكن سكنها لا يتسم بواقعية كبيرة نتيجة تجاهل الدول الغربية الاثار النفسية الهائلة التي تترتب على اللاجئين نتيجة ما تعرضوا له ما قد يمنعهم من العودة الى بلادهم فضلا عن ان الدول المعنية التي يهاجر ابناؤها مخاطرين بحياتهم وحياة اولادهم في البحار وعبور حدود الدول خلسة في حالة انهيار كلي بحيث تزيد الهجرة ولا تساهم في تقليلها. عائلة الطفل ايلان كردي لم تستطع البقاء في كوباني التي تحررت من تنظيم داعش ولا في دمشق التي لجأت اليها ويسيطر عليها النظام السوري وتعيش امانا نسبيا تحت قمع ميلشياته وما تبقى من جيشه ولا أيضاً في تركيا حيث يعيش اللاجئون من دون افق كما في سائر الدول المجاورة. وعليه فان المؤتمر لم يعد صالحا للبحث في موضوع الاقليات ما دامت الاكثريات هي الغالبية اللاجئة الى الدول الاوروبية التي باتت تنوء كما تقول تحت عبء اللاجئين وهي مجموعة من الدول، وليست الاقليات وحدها ما يحتم مقاربة وخطط عمل مختلفة، فيما لبنان الصغير وحده يرزح تحت ثقل يزيد على مليون و200 الف لاجئ سوري.
السؤال مع هجرة الاكثريات المضطهدة بدورها الى الدول الاوروبية وليس الى دول المنطقة يعني عمليا بحث اللاجئين عن امان دائم وليس عن امان موقت وعن مستقبل لا يبدو ممكنا في بلادهم في المدى المنظور واحترام للانسان وقيمته ويفرض جدية في بذل جهود لحل الازمات وليس الاكتفاء بالتعاطي مع النتائج كما في موضوع اللاجئين على ضخامته أو موضوع تنظيم الدولة الاسلامية وسيطرته على مناطق في العراق وسوريا. في لبنان مثلا باعتباره نموذجا عن العجز الدولي والمقاربة الخاطئة للامور وحيث المشكلة اقل تعقيدا مما هي في سوريا أو العراق ثمة حاجة ماسة وملحة لبذل ضغوط دولية جدية من أجل تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية يعيد وضع الاستحقاقات الدستورية على السكة الصحيحة ويطلق رسالة مطمئنة الى عدم السماح بالتلاعب والاستهانة بموقع الرئاسة المسيحي الوحيد في المنطقة. فاسترهان هذا الموقع اقليميا من دول مؤثرة لفرض اجندتها في لبنان في ظل عدم استعداد خارجي للضغط على نحو كاف ارسل ولا يزال يرسل مؤشرات عن غياب القدرة وعدم الرغبة في الدفاع عن هذا الموقع بما يعنيه وما يمثله وإخراجه تالياً من لعبة التجاذبات. والمسيحيون في لبنان باتوا يوجهون كاقلية الى نظرائهم في المنطقة أو من تبقى منهم رسالة عجز فاضح عن تحرير ما بات ورقة في يد دول اقليمية حتى بعد تحرير لبنان من الوصاية السورية، فيما يتخبط الافرقاء المسيحيون انفسهم في لبنان في روزنامات خاصة تحاول النفاذ الى محاولة استرجاع ضمانات أو صلاحيات لن يكون ممكنا اعادتها بل تكاد تكون اعادتها مستحيلة في الظروف الراهنة ولو من أجل طمأنة الاقليات التي يصر الجميع على اهمية وجودها، باعتبار انها توظف من ضمن محاور اقليمية ولغايات محددة فضلا عن انها لا تلقى في الوقت نفسه اي دعم خارجي من هذا الباب بالذات لاعتبارات مختلفة.
فكيف والحال امام عجز متماد حيال محنة سوريا وانهيار العراق وليبيا وبعض الدول الاخرى؟