دبلوماسي عربي في بيروت اكتوت بلاده بنار المذهبية المستوردة، سأل في مناسبة معينة، متى تعود الروح الوطنية المهاجرة الى لبنان؟ ومتى يخرج لبنان من دوامة التطيف والتمذهب التي بلغت حدود النفايات؟ بل متى تعود الوطنية المعيار الأساس في حياة هذا البلد السياسية والاجتماعية، بلد العلم والثقافة والجامعات المفتوحة على الكون؟
قلت للسائل: يعود لبنان كما كنا نعرفه وكنتم تسمعون عنه، أو تعايشونه، عندما يتخلص من الغرائزية الطائفية المشحونة بالتمذهب الانفصامي، التي اجتاحته مع رياح الثورات الاقليمية المتسترة برداء الدين، وهذا التخلص أو التحرر يتطلب اقفال مسارب الافكار الآسنة، والطموحات المتهورة وسد اقنية التحريض والتجييش وضخ الأحلام الهمايونية المتخفية بالعباءة الدينية أو المذهبية، من هذه الجهة أو تلك، هذا يتطلب من دون شك انجاز استحقاقات اقليمية كابحة للحلول في لبنان، خاصة في سوريا، ومعها العراق.
الدبلوماسي المحب للبنان، لاحظ أن التدخلات التي نشكو منها ضمناً أو علناً، ليست من مصدر واحد، وأن مقابل العامل الايراني الواضح المعالم، هناك عامل عربي خليجي لا ينقصه الوضوح.
هنا تتباعد الرؤى، وتختلف المبررات والدوافع، بين من يستثيرك ليجعلك حطباً لنار طموحاته المستعرة، في كل مكان وبين من يزودك بالماء لتطفئ ما استطعت من الجمر المشتعلة في عقر دارك.
نعم الروح الوطنية والقومية التي افتقدها أهل هذا البلد، منذ اربعة عقود، لم تبرح عقول وأفكار اللبنانيين الذين ينص دستور استقلالهم على ان الطائفية رجس من عمل الشيطان، يتعين اجتنابه إن لم يمكن التخلص منه ثم جاء دستور الطائف ليرسم خارطة الطريق لذلك.
لكن لعبة الفوضى الخلاقة التي استدرجت اليها المنطقة العربية بخبث دولي نادر الوجود، حالت حتى الآن، دون عودة اللبنانيين الى فلسفة الوحدة الوطنية، على قاعدة الحرية والعيش المشترك.
وقبل أن تستعيد الدولة اللبنانية هيكليتها الدستورية الصحيحة، أقله بانتخاب رئيس للجمهورية، لن يكون من اليسير عودة الروح الوطنية الى صدور الزعامات اللبنانية التي فقدت بريقها الشعبي والسياسي منذ تحولت الى أوعية زجاجية تنضح بما يوضع فيها من سوائل، طائفية كانت أم مذهبية أم إتنية، فاقدة للمبادرة، مستسلمة للقدر المفروض، مكتفية بما تجود به نعمة الفوضى والفساد الخارج عن كل مألوف…
وبالحديث عن انتخاب الرئيس نعود الى حكاية على وزويك وزويك وعلى، حكاية الوجود الايراني في سوريا والعراق، والحرص الايراني على ابقاء الرئاسة اللبنانية معلقة، على جدار مصير الوضع في سوريا خصوصاً.
هذه القاعدة اعتمدت عام ٢٠٠٧ حتى كانت قمة الدوحة، التي أعقبت أحداث أيار الدامية، وكان انتخاب الرئيس ميشال سليمان فرصة أُحسن استغلالها.
يومها كان لدمشق رأيها، بل كان الصراع في جانب منه، بين من له الكلمة في لبنان، سوريا وعبرها ايران، أم ايران مباشرة، وبمعزل عن سوريا؟ وقد اتضح في حينه ان الكلمة كانت في ذلك الوقت لا زالت لمن يتعلق المرحوم أبو عبده بلسانه…
اليوم لبنان ومنذ ١٦ شهراً أمام مشهد رئاسي مكرر مع اختلاف في المعطيات والتفاصيل. الآن لعبة الرئاسة باتت بيد طهران وحدها، وهي لن تحركها قبل أن تطمئن الى مصير النظام في سوريا، وكذا الحال في العراق، حيث بدأ الحراك الشعبي المنتفض، يتقاطع مع الحراك العسكري العربي المضاد في اليمن.
وبعد الاطمئنان الى الوضع السوري الذي دخل في العناية الروسية المركزة مؤخراً، يمكن فتح ملف الرئاسة اللبنانية على الدفتين، فرئيس للبنان، مع استمرارية النظام السوري على ما هو عليه، وعلى طهران معه، يكون بمواصفات، ورئيس للبنان بوضع سوري مختلف، تريده طهران بمواصفات خاصة مختلفة، تعوّض لها ما قد يكون حاق بها من خسران.
مرحلة الوصاية القسرية هذه على اللبنانيين اجتيازها، ولو بشقّ النفس، بعدها ظني ان استغراب غياب الروح الوطنية أو القومية لدى اللبنانيين، من جانب الاخوان العرب المتحررين بنفوسهم، خصوصاً، لا يعود وارداً ولا مبرراً…