سيكون ضرباً من ضروب الخيال، الرهان على قيام حكومة جديدة خلال المهلة الفاصلة قبل أفول عهد الرئيس ميشال عون، وهي مهلة باتت تقاس بالأسابيع، لا الأشهر، ما يعني أنّه مرشّح لحكومة تصريف الأعمال أن ترث الشغور الرئاسي وتديره خلال المرحلة الانتقالية، في خطوة غير مسبوقة (كحكومة تصريف أعمال)، ولكن على أمل أن لا تطول تلك المرحلة وسط تصور من بعض القوى الأساسية، أنّ احتمال حصول الاستحقاق الرئاسي في موعده، ليس مستبعداً.
ولعل الاخفاقات التي سجلتها حكومة نجيب ميقاتي، كسالفاتها من الحكومات السابقة، بدلاً من تسجيل الانجازات أو أقله «مشاريع الانجازات»، هي التي تجعلها موضع ضرب مباشر من «بيت أبيها»، قبل الخصوم، ما يصعّب احتمال تعويمها من جديد من خلال بعض التبديلات الموضعية لبعض الوزراء، مع العلم أنّ ثمة موانع تفرضها الشروط والشروط المضادة للقوى المعنية بالتبديلات المقترحة، تحول دون تحقيق هذا الهدف.
وها هو على سبيل المثال، «اللقاء الديموقراطي» يسارع إلى الدعوة إلى تأليف «حكومة إنتاج وعمل فعلي، لكي تتولى تطبيق الإصلاحات الضرورية ومتابعة مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي والتصدي للأزمة المالية والمعيشية والاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية الخطيرة على المواطنين، وهذا للأسف ما فشلت الحكومة الحالية في تحقيق أي منه».
في الواقع، لا يُقرأ تنبيه الاشتراكيين من زاوية غسل أيديهم من فشل الحكومة لمراعاة مزاج الرأي العام فقط، وإنما من باب سعيهم لحجز موقع متقدم في مشاورات التأليف في حال سلكت طريقاً سليماً، خصوصاً وأنّ «اللقاء الديموقراطي» بات ممراً إلزامياً للتمثيل الدرزي في الحكومة، على اعتبار أنّ النائبين الدرزيين خارج هذا الفريق موجودان ضمن «مجموعة الـ13 التغييرية»، وهما مارك ضو وفراس حمدان، المفترض أنّهما لن يشاركا في حكومات وحدة وطنية تضمّ المنظومة مجتمعة الى طاولة السلطة التنفيذية، ولهذا سيمارس الاشتراكيون كل أنواع الغنج والدلال لتحسين وضعهم الحكومي اذا ما كانوا سيشاركون في الحكومة.
التصويب في محله
ومع ذلك، فإنّ التصويب على فشل هذه الحكومة، في محله تماماً. اذ أنّ الجردة السريعة لانجازاتها تكاد تقتصر على اجراء الانتخابات النيابية في موعدها، مع العلم أنّ احتمالات ترحيل الاستحقاق بقيت قائمة حتى الساعات الأخيرة، لكنّ سيناريو التأجيل حوصر بضغط دولي حال دون سلوكه الممر القانوني… ولكن يحقّ لحكومة ميقاتي أن تفاخر بأنّها أنجزت الاستحقاق بقليل من الانتقادات والشكاوى التي عادة ما كانت تعيب أي استحقاق نيابي.
لكنّ الحكومة، في المقابل، لم تفلح في تحقيق المهمة الأساس التي ألقيت على عاتقها وهي انتشال البلاد من انهيار اقتصادي غير مسبوق يشلها منذ أكثر من عامين. حينها كانت الأرقام تدلّ بوضوح الى أنّ وتيرة الانهيار ستتسارع أكثر، إذ فقدت الليرة اللبنانية نحو 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار، وبات وفق الأمم المتحدة 78 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية، بحسب مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، بنسبة 700 في المئة.
ولهذا كانت الأولوية في استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتي سبق لحكومة حسان دياب أن بدأتها وعقدت جلسات عدة ما لبثت أن عُلقت بسبب خلافات بين المفاوضين اللبنانيين عكست تضارب مصالح هذه القوى مع المسار الإصلاحي. وشملت لائحة التحديات الطويلة: تحقيق استقرار العملة الوطنية ومكافحة التضخم المفرط، واستعادة ثقة المجتمع الدولي الذي يشترط القيام بإصلاحات ضرورية من أجل حصول لبنان على دعم مالي يساعده على الخروج من الأزمة.
بالتفصيل يتبيّن أنّ ملفين أساسيين كان يُنتظر من الحكومة أن تحقق فيهما تقدماً ملموساً: ملف الكهرباء العالق في عنق زجاجة مصالح القوى السياسية وخلافاتها العقيمة، وخطة التعافي بما تتضمنه من معالجات مالية ونقدية واقتصادية.
ففي ملف الكهرباء، انتهت الحكومة إلى «صفر انجازات». وها هو عقد الفيول العراقي يقترب من نهايته، فيما وزير الطاقة وليد فياض يؤجل تباعاً تواريخ توقيع الاتفاق مع مصر بسبب «قانون قيصر»، فيما العقد الموقع مع الاردن لا يزال مجمداً. وكل ما أنجز هو اقرار مزيد من الخطط «الورقية»، المتوارثة من زمن جبران باسيل مع بعض التعديلات الشكلية. فيما اللبنانيون عالقون تحت مقصلة: معمل سلعاتا أو العتمة الشاملة!
وحاول ميقاتي مع قيام الحكومة الايحاء بأنّه سيضع يده على هذا الملف لتسجيل خرق سريع. فبعد ساعات من ولادة حكومته، سارع إلى الإعلان عن تواصله مع الكويت لإعادة إحياء قرض خطة الكهرباء. هو قرض الصندوق الكويتي للتنمية الذي دأب النائب نقولا نحّاس، ومنذ سنوات، على اتهام رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل بعرقلته، نظراً لشروطه الرقابية.
ثم حاول تقديم «تمريرة مجانية» للفريق العوني من خلال تخليه عن الهيئة الناظمة التي يصرّ عليها المجتمع الدولي والبنك الدولي تحديداً، فقال في مقابلة تلفزيونية في أيلول الماضي، «ثمة أمور أستطيع القيام بها وأخرى لا أستطيع. على سبيل المثال ثمة شروط اصلاحية أنجزت ومنها قانون الشراء العام، إلا أنّه بالنسبة للهيئة الناظمة التي ينصّ عليها القانون 431 تاريخ 2002، فثمة اقتراح مقدم من «تكتل لبنان القوي» لتعديل مهام الهيئة الناظمة ودورها لتكون أشبه بمجلس استشاري ما يؤدي إلى فقدانها رونقها، وهذا الاقتراح مقدّم من الفريق العوني، ولذا يرفضون تشكيل الهيئة قبل النظر بصلاحياتها، بينما المواطن يريد كهرباء، وأنا في الوقت الحاضر أريد أن أؤمن الكهرباء».
وفي حوار له أمام المجلس الاقتصادي- الاجتماعي في تشرين الأول الماضي أعلن ميقاتي عن مشروع حل كامل «بات جاهزاً وهو يؤمن 2000 ميغاوات كهرباء اضافية مما يتيح التغطية الكهربائية الكاملة في لبنان بكل ما للكلمة من معنى. وفي هذا الملف، نحن بصدد استكمال 3 خطوات اساسية هي انجاز القوانين اللازمة، وقد بوشر باعدادها، اقرار نوع العلاقة بين الشركة الجديدة ومؤسسة كهرباء لبنان، والجهة التي ستتولى ادارة هذا المشروع. لقد عرضنا هذا المشروع على العديد من المؤسسات الدولية، وخصوصاً البنك الدولي، وطلبنا مشاركة دولية فيه، والموضوع اصبح في حكم المنتهي وسيتم عرضه قريباً».
يومها كان الاقتراح يقضي بأن يكون التمويل وفق «برنامج مالي يفتح الباب أمام مشاركة بين القطاعين العام والخاص، على أن يتمّ استخدام حقوق السحب التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي بالتوازي مع تحويل ستة مليارات دولار بنكي من الودائع، إلى مليار ونصف المليار من الدولار الطازج التي يوفرها مصرف لبنان من الاحتياطي الموجود لديه».
مقصلة معمل سلعاتا
لكنّ الحكومة سرعان ما غرقت في المستنقع ذاته الذي سبق لكل الحكومات أن غرقت فيه: معمل سلعاتا. اللافت، أنّه قبل ساعات من تحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال، قرر ميقاتي صبّ زيت «الكهرباء» على نار علاقته مع الفريق العوني، متهماً اياه بسحب بندين مرتبطين بهذا الملف، وهما مشروع عقد بالتراضي مع مؤسسة كهرباء فرنسا لإعداد دفاتر الشروط وملفات التلزيم لإنشاء معملين جديدين لإنتاج الطاقة الكهربائية في الزهراني ودير عمار، ومشروع إنشاء محطات للتغويز لتعزيز إنتاج الطاقة من الغاز… موحياً بأنّ الكهرباء باتت على مسافة أمتار من اللبنانيين!
الوضع لم يكن أفضل حالاً مع خطة التعافي التي تركت أيضاً للجلسات الأخيرة، مع العلم أنّ الحكومة كانت تتباهى مع قيامها أنّها ضمّت بين وجوهها، أكثر من «خبير» و»ضليع» و»متمرّس» في هذا المجال. ولكن المهمة ألقيت على عاتق الانهيار المالي والاقتصادي ليصحح ذاته من دون «جميلة أحد». جلّ ما حاولت الحكومة فعله هو شراء الوقت ولو بما تبقى من الاحتياطي الإلزامي، بعدما تولى مصرف لبنان رفع الدعم تدريجياً، فيما تُرك رفع تعرفة الاتصالات إلى ما بعد الانتخابات خشية من نقمة الناس، وجرى اسقاط بند رفع الدولار الجمركي… والباقي على مجلس النواب.
في الخلاصة، يُستنتج أنّ ميقاتي لم يكبّر حجر طموحاته لادراكه سلفاً أنّ مهمته شبه مستحيلة، وهو اكتفى بعد إعلان مراسيم تأليف الحكومة بالتعبير «عن أمله بإيقاف الانهيار في لبنان، والقدرة على النهوض بالحكومة لتأمين الحد الأدنى من احتياجات الشعب اللبناني»… ولعل ذلك يدعو للاعتقاد بأنّ «دولة الرئيس- الملياردير- البيزنيس مان» يهتّم باللقب أكثر من حرصه على تحقيق الانجازات.