تغيّرت الدنيا في المنطقة والعالم بأكثر مما نتصور، ونحن نرى المشهد المتحرك أمامنا. ولم يكن ممكناً أيام الاتحاد السوفياتي ومعاهدة الصداقة والتعاون بينه وبين سوريا، وحتى في الخيال، ان نشهد إقامة قاعدة عسكرية روسية دائمة في طرطوس. ففي الثلث الأخير من القرن العشرين كان الصوت الصارخ في الشارع وبرنامج العمل لدى معظم الأنظمة العربية تفكيك القواعد العسكرية الأجنبية. ولم تعد اقامة القواعد من الأولويات لدى الدول الكبرى التي قامت بمراجعات لسياساتها. إذ حين زار بيروت في صيف ١٩٨٢ وزير الدفاع الأميركي كاسبار واينبرغر وسمع عرضاً لاقامة قاعدتين أميركيتين على الشاطئ اللبناني ردّ بالقول: من قال لكم اننا نريد اقامة قواعد جديدة؟ وفي بدايات القرن الحادي والعشرين صار رأس الحكمة في الحفاظ على الأنظمة دعوة الدول الكبرى الى اقامة قواعد عسكرية.
ذلك ان أميركا التي تخلّت عن قواعد في غير بلد ولجأت الى سياسة حدود المياه الزرقاء عادت الى اقامة القواعد. وروسيا تلحق بها عبر اتفاق مع دمشق وافق عليه مجلس الدوما مؤخراً لنشر قوات روسية في سوريا لزمن غير محدّد وبناء قاعدتين بحرية وجوية، والبحث مع مصر في اقامة قاعدة هناك، والتفكير في العودة الى قواعد قديمة في كوبا وفيتنام.
وليس ما فعله الرئيس فلاديمير بوتين في جورجيا وأوكرانيا وسوريا سوى افتتاح فصل جديد في سيناريو عسكرة السياسة الدولية. وهو سيناريو كان يتصور غورباتشوف انه انتهى مع نهاية الحرب الباردة وتفكيك حلف وارسو. لكن أميركا فعلت العكس: مدّ حلف الناتو الى حدود روسيا وتوسيع العضوية فيه وزيادة مهامه بدل حلّه. وجاءت قمة العسكرة للسياسة الدولية في حرب عاصفة الصحراء ثم في غزو افغانستان والعراق.
ومع عسكرة السياسة الدولية، بدأت عسكرة السياسة الاقليمية عبر طموح دول أساسية في المنطقة لاقامة مشاريع امبراطورية تحت عنوان النفوذ. وبالمقابل زادت عسكرة الحراك باسم الدين، بحيث وصلنا الى دولة الخلافة الداعشية التي ألغت الحدود بين العراق وسوريا، وحاولت إلغاء الحدود بين سوريا ولبنان.
ولا أحد يعرف أين يتوقف هذا المسار. فلا القواعد الروسية هي الرمز الوحيد لانتشار قوى أجنبية على أرض سوريا التي يعرف الجميع مدى الحساسيات الوطنية فيها. ولا الرئيس باراك أوباما تمكّن من إكمال برنامجه للانسحاب العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. إذ فرضت عليه التطورات نشر قوات خاصة في العراق وسوريا وليبيا ودعم التحالف الذي تقوده السعودية في حرب اليمن.
والكل يترقب ما سيحدث في سباق العسكرة بين روسيا وأميركا في مرحلة ما بعد أوباما والمخاطر الكبيرة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية.