إنتهت معركةُ تحرير الجرود من الإرهابيين، وباتت الحدودُ اللبنانية خاليةً من وجودهم عملياً، ما يفتح البابَ على أكثر من سؤال، لعلّ أبرزه كيف سيكون وضعُ الحدود اللبنانية- السورية لاحقاً؟
يقول المثل «الباب يلي بجيك منّو ريح سدّو وستريح»، لكنّ هذا الأمر لا ينطبق على لبنان الذي كان يخضع قبل الإنتداب الفرنسي لظلم والي عكّا ووالي الشام بغضّ النظر عن الأشخاص، ولسوء حظّ الكيان اللبناني، فإنّ حدودَه الجنوبية والشرقية والشمالية مشرَّعة على المآسي ولم تشكّل يوماً عاملَ راحة له، فمِن الجنوب تحدُّه إسرائيل، ومن الشرق والشمال تتحكّم سوريا بكل شيء، ولا يبقى أمامه إلّا البحر.
وإذا نظرنا الى الكوارث التي حلّت ببلدِ الأرز، نرى أنّ كلّها عبرت الحدود، فالكارثة الأولى والأهمّ بلغت الذروة عام 1948، تاريخ النكبة الفلسطينيّة، حينها شرّع لبنان حدودَه أمام اللاجئين وتضامَن معهم إنسانياً، لينقلبوا عليه لاحقاً.
أما المحطّة الثانية، فكانت عام 1958، عندها إستغلّت المعارضةُ اللبنانية قيامَ الجمهورية العربية المتحدة بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وانقضّت على مركز الجمارك في المصنع وقتلت مَن فيه، وأدخلت السلاحَ عبر الحدود البقاعية والشمالية للقيام بالثورة.
ولم يتوقّف مسلسلُ استباحةِ الحدود هنا، بل إنّ هزيمة 1967 العربية شكّلت بدايةً قويةً للعمل الفدائي الفلسطيني، فدخلت منظمة التحرير وسط احتضانٍ إسلامي، وبدأت تستهدف إسرائيلَ عبر لبنان، وإستباحة الدولة، ما اضطّر لبنان الى الموافقة على «إتفاقية القاهرة» مرغماً عام 1969، وتنازل بذلك عن سيادته، ليسبّبَ بعدها الفلسطينيون والقوى الوطنية اللبنانية حربَ 1975، من ثمّ يدخل الجيش السوري لبنان عام 1976، «ماحياً» الحدودَ بين البلدين.
في تلك المراحلة، بات لبنانُ بلا حدود، ودخلته غالبيةُ التنظيمات الإرهابية، واجتاحته إسرائيل مراتٍ عدّة أبرزها عام 1982 من أجل ضرب منظمة «التحرير». وفي هذه الأثناء استغلّت إيران الفوضى، فأسّست «حزبَ الله» الذي أصبح ذراعَها العسكري في لبنان.
وُقّع إتفاق «الطائف» وسلّمت غالبيةُ الميليشيات سلاحَها باستثناء «حزبِ الله»، وعام 2000 إنسحبت إسرائيل، ولحقها الجيش السوري عام 2005، ولم يتغيّر شيء، إذ أقدم «حزبُ الله» على خطف جنديين إسرائيليين في تموز 2006، ما انتج «حربَ تموز» الشهيرة، وتوقّف القتال بعد شهر، وصدر القرار 1701.
وبعد إندلاع الثورة السورية في 15 آذار 2011، شُرّعت الحدودُ على مصراعيها مجدّداً، فريقٌ شرّعها لإستقبال النازحين السوريين، وآخرٌ حمل عسكرَه وعدّتَه، وذهب يقاتل في سوريا والعراق واليمن. لكن، بعد انتصار الجيش باتت مسألةُ الحدود أساسية، إذ هل يعود لبنان الى الزمن الماضي ويدخل أزمةً وحرباً عند حصول أيِّ خضّة أمنية، وهل ما زالت السلطةُ السياسية عاجزةً عن ضبط حدودها؟
في هذه الأثناء، تؤكّد مصادر عسكرية لـ«الجمهورية» أنّ الجيشَ قادر على ضبط الحدود بنسبة مئة في المئة، وقد أظهر صلابةً في المواجهة، وهو بالتالي حريص على عدم تسرّب الإرهابيين الى الأراضي اللبنانية، ففي السابق كان القرارُ السياسي يعطّل مهماتِه أمّا حالياً فالغطاء الكامل ممنوحٌ له.
ويصف الجيش الوضعَ الحدودي بـ«الممتاز»، إذ إنّ الحدود الجنوبية تخضع للقرار 1701، والجيش يطبّقه بالتعاون مع «اليونيفيل»، ولا مشكلات كبيرة تسجَّل، أما بالنسبة الى الحدود الشرقية والجنوبية، فإنّ هناك 4 أفواج حدود برّية درّبتهم بريطانيا وسلّحتهم، ويملكون قدرة مراقبة عالية جدّاً، وقد بنت لندن أبراجَ مراقبة حديثة مزوَّدة بأحدث التقنيات ما يجعل الجيشَ قادراً على مراقبة الحدود.
وتتوزّع أفواجُ الحدود على طول الحدود: فوج الحدود البرّي الأوّل على الحدود الشمالية في وادي خالد، والأفواج الثانية والثالثة والرابعة تنتشر من شبعا حتّى القاع، فيما يستكمل اللواء التاسع إنتشارَه في جرود عرسال، وتساند هذه الأفواج، أفواجٌ أخرى من الجيش وذلك حسب الحاجة، إضافة الى وجود مراكز للأمن العام والجمارك وقوى الأمن الداخلي في النقاط الحدوديّة الحساسة.
وتشدّد المصادر العسكرية على أهمّيةِ الترابط بين مراكز الجيش، من شبعا وصولاً الى القاع، وهو سيمنع دخول الإرهابيين والمخرّبين أيضاً، وينتشر على الحدود وفق الخرائط التي يملكها، أما بالنسبة الى ترسيم الحدود فهذا قرارٌ تتّخذه السلطة اللبنانية، والجيش مستعدّ لكل مهمّة تُطلب منه.
يعلم الجميع، أنّ التقصيرَ الذي أوصل الى حالة الفلتان تقع مسؤوليّتُه على عاتق السلطة السياسية، التي يملك بعضُ أطرافها حسابات تتخطّى الحدود، ما يفرمل عملَ الجيش والأجهزة ويضيّع تضحياتِهم سدىً، لذلك، بات واضحاً بعد معركة رأس بعلبك والقاع أنّ الجيش محترفٌ وقادرٌ وحدَه على حماية لبنان وضبط الحدود، لكن من دون أن تُدخل السياسة لبنان في نكباتٍ عابرة للحدود وتعيد عقاربَ الساعة الى الوراء.