إذا كان يوجد قرارٌ بإسقاطِ الحكومة ونقلِ البلاد من الشغور الرئاسي إلى الفراغ الدستوري، ومن الحدّ الأدنى للشرعية إلى الحدّ الأقصى للفوضى، فلنُقدِم عليه دون انتظارٍ إضافي.
حين اعترضتُ على قرار حزبي بالاستقالة وقررتُ البقاء في المسؤولية رغم ارتداداتها السلبية في هذه المرحلة، اخترتُ المصلحة الوطنية على مصلحتي الشخصية. فمصلحتي الشخصية كانت تقضي بأن أبقى في حزبي وأتنقل من مسؤولية حزبية إلى أخرى، لأنّ الحزبَ باقٍ والحكومة راحلة. لكنّ إيماني بأن لا بديل عن هذه الحكومة في ظلّ عدم انتخاب رئيس حـتَّم الصمود في الحكومة.
نعم نحن، الوزراء، نقوم بفعل صمودٍ إذا أحسنّا التصرف. هذا الشعور بالمسؤولية يجب أن ينساب على الوزراء جميعاً، إذا كنا مؤمنين فعلاً بأننا حراسُ هيكل الشرعية، فنتصرّف على مستوى الأمانة. وبالتالي لا يجوز أن ننام على حرير أنّ الاستقالةَ مستحيلةٌ دستورياً والحكومةَ حاجةٌ وطنيةٌ، فنَقضي حاجاتنا عوض أن نلبّي حاجات الناس والوطن.
يجب أن نترك كلّ وزير يعمل في وزارته ولا يُنصِّب كلُّ واحد منا وزيراً على الآخر، بل على كلّ الوزارات. وحين يتقدّم وزيرٌ بمشروع يَخصّ وزارتَه، نناقشه بموضوعية ونعطي ملاحظاتنا واعتراضاتنا؛ وعلى الوزير المعني أن يأخذ بالمفيد منها. ولكن لا يجوز أن نعطّل صدورَ المشروع وعملَ الوزراء ودورَ الحكومة ومشاريع الناس. هذا الأسلوب لا علاقة له بالمعارضة والموالاة. إنه جريمة بحق المجتمع.
عوض أن نستفيدَ من صلاحياتنا الواسعة لتحقيق إنجازاتٍ كبيرة، نرى البعض يستغلّ هذه الصلاحيات لإضرام مناكدات صغيرة. وعوض أن نعمل على إنهاء الشغور الرئاسي، نرى البعض يعمل على إنهاء الجمهورية. وعوض أن نُحضِّر لقيامة المؤسسات، نرى البعض يُحضِّر للثورات. فلنَنْتبِه: إذا كانت الثورة الكبيرة مستحيلة في لبنان بحكم تركيبته الطائفية، فالثورات الصغيرة ممكنة بحكم الأزمات المستفحِلة.
المطلوب تغيير سلوكنا. إن لم يكن حِرصاً على سمعة البلد فحرصاً على سمعة الحكومة. وإن لم يكن حرصاً على سمعة الحكومة فحرصاً على سمعة كلّ وزير. وإذا كان هناك بيننا ـــ كوزراء ــ مَن لا يهاب السمعة السيّئة ولا يكترث لنظرة الرأي العام إليه، فهناك وزراء، وهم الأكثرية في هذه الحكومة، ليسوا مستعدّين لأن يُؤخذوا بجريرة غيرهم.
وفي هذا الإطار، إذا كنتَ يا دولة الرئيس تعتبر أنّ هذه الحكومة فيها فساد فلماذا لا تفضح هذا الفساد وهؤلاء الفاسدين. أنت رئيس حكومة ولديك المعطيات والمعلومات والصلاحيات.
نعم هناك فساد في الحكومة لأنّ هناك فساداً في الطبقة السياسية وفي الدولة بأسرها، وبخاصة في الادارات الرسمية وفي المجتمع اللبناني، وقد تفاقم بعد نظام دولة الطائف الذي هو فعلياً نظام “مرّقلي تا مرّقلك” أو “بِتْعطِّلي بِعَطِّلك”.
وهناك شبه استحالة في ظلّ وضع الدولة الحالي وانكفاء أجهزة الرقابة الأربعة أن نكافح فساد الإدارة جدّياً. غير أنّ مصدر الفساد ليس في الحكومة بحدّ ذاتها، بل عند أكثرية القادة السياسيين، وهم غير موجودين إلى طاولة مجلس الوزراء، بل في هيئة الحوار. هناك محطة إرسال الفساد وهنا استديو البث.
هذه الحكومة ليست أفضل الحكومات لكنها بالتأكيد ليست أسوأ الحكومات. الفساد موجود منذ أن نشأت الدولة اللبنانية وإلّا لِمَ حصلت الثورة البيضاء سنة 1951؟ ولِمَ طُرح مشروع “من أين لك هذا” في أواخر الخمسينات وبداية الستينات؟ ولِمَ حصلت الثورة على المكتب الثاني والشهابيين (لا على فؤاد شهاب) في أواخر الستينات؟ ولِمَ حصلت محاكمات الضباط في السبعينات؟
ولِمَ انخفضت قيمة الليرة اللبنانية في الثمانينات؟ ولِمَ استُجوب رؤساء وزارات ووزراء ونواب ومدراء فسُجن القليل وغُضّ العدل عن الآخرين في أواخر التسعينات وأوائل الألفين؟ لو لم يكن هناك فساد في الحكومات السابقة، وخصوصاً، زمن الوصاية السورية المباشرة في التسعينات، لَما وقعنا تحت مديونية بلغت نحو 75 مليار دولار؟
هذه التركيبة اللبنانية الهجينة المجسَّدة بهذا النظام لا تفرز سوى هذا الحكم. وهذا الحكم بتياراته وقياداته القديمة والمُستحدَثة لا يفرز سوى هذه الحكومات. فيكفي جلد الذات كرمى لأهل الفوضى والغوغائية والشعبوية والفساد السابقين والجدد.
بعد التقرير المميّز لوزير المال الأستاذ علي حسن خليل الذي كشف فيه عن الارقام المالية والاقتصادية المخيفة، وبعد نزوح مليون ونصف سوري إلى لبنان، وبعد التوطين الواقعي لنصف مليون فلسطيني، أيَحق لبعض الوزراء مواصلة سياسة المحاصصة والكيدية والنكاية؟ البلد يحتضر وبعضنا لا يستحي ولا يخجل. المطلوب وقفة ضمير، صحوة أخلاقية، ووعي الخطر.
لقد تألّفت هذه الحكومة من الأضداد للتخفيف من الصراعات، فإذ بها تصعِّد الصراعات وتنقلها إلى طاولة مجلس الوزراء. ليس من هنا، من مجلس الوزراء سيخرج رئيس الجمهورية لنختلف بسببه، بل من المجلس النيابي ومن السفارات وأجهزة الاستخبارات الخارجية. فارحموا هذه الحكومة لتبقى قادرة على الحفاظ على آخر مربّع للشرعية اللبنانية.
لذلك نتوجّه إلى الرئيس تمام سلام، حامل خطايا هذه الحكومة والطبقة السياسية، والصابر على أوجاعه، والمضحّي بمصلحته، أن يبادر إلى تعديل آلية اتخاذ القرارات. لقد أقدَمتَ يا دولة الرئيس على تجميد الآلية الدستورية الطبيعية تحاشياً المسَّ بصلاحيات رئيس الجمهورية الممثَّل فينا جميعاً، لكنّ هذه الآلية المرحلية استغلّها البعض لتعطيل الحكومة والجمهورية. لذلك لا بدّ من العودة إلى الدستور، فالشعب لا يتحمّل لا ما نقوم به، ولا ما لا نقوم به.