ليست كافية الاحداث المتلاحقة امس كي تنبئ بفتنة او انهيار امني. أفصحت حقاً عن نذير بأحد استحقاقين: تعريض النظام السياسي للسقوط، او المغامرة بالتلاعب بموازين القوى. لأن كليهما ممنوع الآن، وقع الوزير في اكثر من المحظور. في خطيئة
احال الفيديو المسرّب لكلام وزير الخارجية جبران باسيل عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي خلاف رئيس الجمهورية ميشال عون وبرّي اقرب الى ازمة وطنية، بعدما اقتصر مذ اندلاعه على كونه ازمة دستورية تتصل بتباين تفسير كل منهما المادة 54 من الدستور وتوقيع وزير المال مرسوم منح اقدمية سنة لضباط. كالنار في الهشيم، اسرع مما توقّع القائل ومما تلقف المقصود، انفجرت مشكلة وطنية كادت تتصف بكيانية بين ما يمثله رئيسا الجمهورية والمجلس كل في موقعيه الدستوري والوطني، وما يمثلانه في طائفة كل منهما.
ما نجم عن تسريب كلام باسيل ليل الاحد ــ عفوياً او متعمّداً وفي الغالب تشفياً منه ــ والتزام رئيس الجمهورية الصمت طوال نهار امس، ثم تحرّك الشارع المؤيد لبرّي بغضب موصوف بينما رئيس المجلس يلتزم الصمت ايضاً، من غير ان يستدرك احد من المسؤولين الآخرين، بدا ان ثمة ما قد ينذر بالاسوأ يضع البلاد امام خطر حقيقي.
في حصيلة ساعات طويلة بدأ من السهولة استخلاص درسين: اولاهما سهولة الاستخفاف بعلاقات المسؤولين بعضهم ببعض الى حد توجيه نعوت غير لائقة تصل الى حد الاهانة المقصودة، غير مبرّرة حتى. ثانيهما سهولة تحرّك الشارع او تحريكه ووضعه على حافة بركان.
بالتأكيد بدا لافتاً ومثيراً للانتباه ان احداً من نواب تكتل التغيير والاصلاح، او اولئك القريبين من باسيل، كما التيار الوطني الحر، لم ينضم الى السجال تنصّلاً مما سُرّب وفي احسن الاحوال خجلاً منه. مع ذلك، فالكلام الذي قيل لم يكن مجرد وجهة نظر قالها فريق في فريق آخر. لم يكن ايضاً استدراجاً او استفزازاً. ما لم يفعله كل من رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، احدهما حيال الآخر، في ذروة نزاعهما على المرسوم وتشبّث كل منهما بموقف قاطع لا يتزحزح عنه، اقدم عليه وزير الخارجية في ملف لا يستحق هو مؤتمر ابيدجان، ونحو مرجع يصعب التصويب عليه.
لا يكتفي باسيل باتقانه اختيار اعدائه، من داخل تياره وخارجه، بل ايضاً احاطة نفسه بهم في وقت واحد: هو خصم حزب الكتائب وتيار المردة، يمر في علاقة متردية مع القوات اللبنانية، من دون ان يهضم النائب وليد جنبلاط علاقته به. يحمّل علاقته الموصوفة بالتعاون برئيس الحكومة سعد الحريري اكثر مما يحمّلها الحريري نفسه وهو بالكاد يستطيع تنكّب خصومته مع حزب الله، مقدار اصراره على التحدّث مع الافرقاء الآخرين جميعاً: يختلف مع جنبلاط ويصالحه، يغضب من سمير جعجع ولا يقطع الخيط بينهما، يضمر امتعاضاً من النائب سامي الجميل ويظل متأهباً للحوار معه. يحمل في قرارة نفسه ذنب ترشيحه النائب سليمان فرنجيه للرئاسة ثم تخليه عنه لكنه يحافظ على صداقته به. فوق ذلك كله يجد في رئيس المجلس الرافعة التي يحتاج اليها، وفي رئيس الجمهورية ــ منذ خروجه من الاحتجاز في الرياض ــ الحماية الدافئة.
ما يصح على الحريري، ينطبق ايضاً على حلفائه هؤلاء، واحداً بعد آخر، في بناء تحالفات وعداوات. بين هؤلاء خصومات، الا ان كلاً منهم يفتح نصف باب على آخر، كما بين المردة والقوات اللبنانية، وتيار المستقبل والقوات اللبنانية، وجنبلاط وحزب الكتائب والقوات اللبنانية. بين حزب الله وكل من تيار المستقبل وحزب الكتائب والقوات اللبنانية، والى حد جنبلاط، خلافات تبدو في الغالب غير قابلة للتذليل.
على وفرة ما يجمع هؤلاء بعضهم ببعض، وبعضهم ضد بعض، ثمة مكان واحد لا يريد اي منهم ان يختلف معه وفيه، او يزعله حتى. هو رئيس البرلمان. في عين التينة يحضر الرئيس امين الجميل، وجنبلاط او موفدوه، وفرنجيه، وجورج عدوان باسم جعجع، ووزير الداخلية نهاد المشنوق باسمه كما باسم الحريري ناهيك بالحريري نفسه. في هذا المكان لم يُتح لحزب الله ان يمون على صاحب البيت انتخاب عون رئيساً للجمهورية، الا ان الرجل ترأس الجلسة وادار الانتخاب، عارفاً ان عون سيُنتخب حتماً رئيساً من غير ان يؤيده. في وقت لاحق، قال ما بدا توقّعاً، الا انه امسى اشبه بنبوءة: ذهبنا الى جلسة انتخاب رئيس واحد للجمهورية لا اثنين. قبل اشهر قليلة قال ما هو ابعد من ذلك، معبّراً عن مرارته: ذهبنا الى انتخاب الرئيس عون، فانتخب آخر. اشارة صريحة الى دور صهر الرئيس وزير الخارجية، الآخذ في الانتفاخ.
ليس الصهر الاول لرئيس للجمهورية في الحكم. اولهم عبدالله الراسي الى جانب الرئيس سليمان فرنجيه من دون ان يصير وزيراً. ثانيهم فارس بويز الى جانب الرئيس الياس هراوي وزيراً طوال السنوات التسع. ثالثهم الياس المر الى جانب الرئيس اميل لحود طوال اربع من السنوات التسع. قبل هؤلاء جميعاً ثمة سابقة معكوسة لكن برّاقة وذات مغزى: ان يكون رئيس للجمهورية صهر احدى اهم الشخصيات المسيحية الواعية المثقفة تقف في وجه الرئيس الصهر كي تحول دون تمديد ولايته. سقط الرئيس الصهر. تلك حال الرئيس بشارة الخوري وشقيق زوجته ميشال شيحا. على مرّ قصص الاصهار اولئك، لم يقل احد منهم او اوحى انه اكثر نفوذاً من الرئيس نفسه. لم يورّط اي منهم عمّه.
أسف باسيل، اللاحق، عما قاله في حق رئيس المجلس لم يستدرك الخطأ. لم يكن ما قاله انزلاقاً، او زلة لسان، كي يُصحَّح بأسف. في وقت لاحق على تسريب الفيديو ليل الاحد، وزّعت مواقع الكترونية النص الكامل لكلام وزير الخارجية، بالصوت، قال فيه اكثر من «بلطجي». احد ما قاله «تكسير رأس…». واقع الامر اتت نعوت باسيل في سياق عرض متكامل لما اعتبره رواسب الحقبة السورية، قال انه يريد التخلص منها بعدما هضمت حقوق المسيحيين واستولت على الدولة. بيد انه اغفل ثلاثة آخرين كانوا في صلب الحقبة تلك: حزب الله الذي هو حليف عمّه الرئيس لا حليف التيار الوطني الحر، الحريري الابن وارثاً من الحريري الاب كل الدور والمكاسب، جنبلاط الحليف المستجد في دائرة الشوف ــ عاليه.
ما حمله ردّ فعل حزب الله على كلام وزير الخارجية وانحيازه العلني الى برّي، مؤشران يعكسان خياريه:
اولهما، ان ما يجعله مديناً لعون لا ينطبق بالضرورة على اي آخر في التيار الوطني الحر، بما في ذلك رئيسه الذي لا يشبه رئيس الجمهورية.
ثانيهما، ان الرئيس الحالي للمجلس هو الرئيس المقبل له بما يعنيه ذلك انه في صلب معادلة التوازن الداخلي داخل الطائفة الشيعية، كما داخل لعبة التوازن بين المؤسسات الدستورية، فسّرها انحيازه الى برّي وموقفه من مرسوم الاقدمية.