“نداء الوطن” تكشف تفاصيل التحقيق في ملف “مبنى قصابيان”
هي قصة هدر أكثر من 10 ملايين دولار في وزارة الإتّصالات. والبطولة فيها مشتركة، بحسب القرار الظنّي الصادر عن قاضي التحقيق الأول في بيروت، أسعد بيرم. من وائل أيوب، وشربل قرداحي، وكلود باسيل، إلى وزيرَي الإتّصالات السابقَين، نقولا صحناوي وبطرس حرب. و»الخاتمة السعيدة» ما زالت تُخاط في الأمانة العامة لمجلس النوّاب. فالجلسة التي كان يُفترض أن تُرفع خلالها الحصانة عن صحناوي واتّهامه مع حرب بصفتهما وزيرين سابقين، جرى تطييرها.
في التفاصيل، قامت شركة MIC 2، المتعاقدة مع الدولة اللبنانية منذ 2012 لإدارة قطاع الاتصالات، بتوقيع عقد إيجار مع الشركة اللبنانية للتعمير، قصابيان إخوان، لاستئجار مبنى في منطقة الشياح لمدّة عشر سنوات. عندها قام كلّ من وائل أيوب وشربل قرداحي، بصفتهما عضوين في مجلس إدارة الشركة، بالتوقيع على عقد الإيجار بطلب من رئيس مجلس الإدارة، كلود باسيل. وبعد توقيع العقد، تبيّن أن المبنى يحتاج إلى الكثير من أعمال الصيانة، ما أدّى إلى توقيع ملحق لعقد الإيجار، بتاريخ 24/09/2013، حيث قُدّرت قيمة الأعمال المتوجّبة بـ1,800,000 دولار.
يُذكر أنه، قبل 2011، كانت مصاريف الإيجار تقع على عاتق الشركة المشغّلة لقطاع الخلوي، لكن هذا الأمر عُدّل في مجلس الوزراء بناء على طلب صحناوي لتحال إلى الدولة. وإلى الأخيرة نُقلت كافة المصاريف التشغيلية لشركة MIC 2 في 2012. وعند استلام الوزير حرب الوزارة، طلب من باسيل فسخ العقد فوراً بسبب ملاحظاته على موقع المبنى غير المناسب وعلى كيفية توقيع العقد. فإلى المزيد من التفاصيل.
«تريو» الشركة
خلال التحقيقات الأوّلية والاستنطاقية، صرّح وائل أيوب، الذي عُيّن عضواً في مجلس إدارة شركة MIC 2 في 2011، أن الشركة كانت ترغب في نقل المركز الذي تشغله مقابل مرفأ بيروت إلى مكان آخر. وبعد دراسات عدّة، تقرّر اعتماد مبنى قصابيان. وأفاد أيضاً أن من قام بالتفاوض بشأن عقد الإيجار هو وزير الاتصالات آنذاك، نقولا صحناوي، ورئيس مجلس إدارة الشركة، كلود باسيل. كما أكّد أن الأخير كان يعلم بضرورة إجراء بعض الأعمال عند توقيع العقد لكنّه لم يكن على بيّنة من قيمتها.
من جهته، أشار المدّعى عليه، شربل قرداحي، خلال التحقيقات أنه كان يشغل مركز المدير المالي في شركة MIC 2، مؤكّداً أن التوقيع على العقد حصل بعد موافقة وزير الاتصالات الخطية ورئيس مجلس الإدارة الشفهية. وأوضح أن من قام بالتفاوض مع مالك المبنى هو المحامي كريم قبيسي إضافة إلى أنطوان الحايك وجورج شقير. كما لفت إلى عدم استخدام المبنى وأنه كان يجب أن يكون هناك عقد واحد لتحديد كافة المصاريف المطلوبة ومهلة الانتقال إلى المبنى تحت طائلة فسخه.
أما باسيل، الذي كان يشغل مركز رئيس مجلس إدارة الشركة، فقد أفاد خلال التحقيق بأنه هو من ترأس اللجنة التي كانت تفاوض صاحب المبنى. لكن، بعد أن أصبحت نفقات الإيجار على عاتق الدولة، انتقلت المفاوضات من اللجنة إلى فريق وزير الاتصالات، نقولا صحناوي آنذاك. وشرح كيف أن الوزير حرب طلب فسخ العقد بعد تسلّمه الوزارة لاعتقاده بوجود صفقة ما، رغم معرفته بالخسائر المترتّبة عن الفسخ.
… و«ديو» الوزارة
ومن الشركة إلى الوزارة. الوزير صحناوي صرّح، خلال الاستماع إليه بصفة شاهد في مرحلة التحقيق الاستنطاقي، أن باسيل بلّغه حاجة الشركة للانتقال إلى مبنى جديد لعدم كفاية مساحة المباني المشغولة. فاستؤجر المبنى وكان الهدف تأمين الانتقال إلى مبنى أوسع وببدل إيجار أقلّ. وأضاف أنه كان قد ترك الوزارة عند تقديم استدراج العروض بكافة أعمال الصيانة المطلوبة وأن خلفه، حرب، لم يوافق على استدراج العروض فقام بفسخ العقد.
الوزير بطرس حرب قال، خلال الاستماع إليه، إن معلومات وصلته، في 2014، عن وجود صفقة مشبوهة ما تتعلّق بعقد الإيجار، حيث تبيّن أن الأخير لم يحمل توقيع رئيس مجلس إدارة شركة MIC 2، وأن أساسات المبنى لا يمكنها تحمّل وزن المعدّات التقنية الواجب استخدامها، كما اتّضح له أن بدلات الإيجار المتّفق عليها في العقد تزيد عن تلك الرائجة في المنطقة. لهذه الأسباب مجتمعة، قرّر فسخ العقد. ولفت ختاماً إلى أن معلومات وردته من قِبَل أوساط الشركة بأن باسيل لم يكن يرغب في تحمّل مسؤولية توقيع العقد.
تفرُّع المسؤوليات
مخالفات العقد كثيرة. فقد ظهر نتيجة التحقيقات أن المبنى المستأجر لم يتمّ إشغاله بتاتاً رغم تسديد بدل إيجار لمدّة ثلاث سنوات بقيمة 7,608,000 دولار، إضافة إلى أعمال الصيانة التي نُفّذت بقيمة 3 ملايين دولار دون أن يجري إشغال المبنى ولو ليوم واحد ما يشكّل عنصراً من عناصر هدر وسوء إدارة واختلاس المال العام.
أما بالنسبة للعقد، فقد اعتبر القاضي بيرم أنه لا يحقّ للشركة إبرام عقد تتجاوز فترة تنفيذه مدّة العقد الموقّع بينها وبين الدولة، ومن دون الموافقة المسبقة لمجلس إشراف المالك الذي يمثل وزارة الاتصالات، وهو المخوّل بإعطاء الموافقة المسبقة على النفقات التشغيلية التي تتجاوز الحدّ المتّفق عليه تعاقدياً.
وبخصوص الوزير صحناوي، فهو من قام بإبرام العقد رضائياً، واتّخذ قرار صرف أموال من الخزينة العامة متفرّداً، دون إجراء مناقصة أو استدراج عروض مسبق. كما أنه غضّ النظر عن تقاعس الشركة المشغّلة عن القيام بما يلزم للتأكد من مدى صلاحية المبنى. هذا إضافة إلى إصراره على إبرام صفقة مبنى قصابيان رغم انتفاء الحاجة إليه بعد التوقيع على عقد إيجار طابقين في وسط بيروت، في مبنى (Beirut Digital District – BDD).
من جهته، اكتفى الوزير حرب باتخاذ قرار فسخ العقد على خلفية معلومات وصلته عن وجود صفقة مشبوهة دون السعي لاسترداد المال المهدور ومحاسبة الجهات المسؤولة أمام القضاء المختص.
«رفع الحصانة»… طار
القرار الظني الصادر عن القاضي بيرم بتاريخ 03/03/2022 رفع المسؤولية الجزائية عن كلّ من أيوب وقرداحي وباسيل، حيث إن قرار إبرام العقد وفسخه لم يكونا للشركة إنما لوزارة الاتصالات. أما بالنسبة للوزيرين صحناوي وحرب، جرت إحالة نسخة من الملف الى الأمانة العامة للمجلس النيابي لكي تمارس صلاحياتها في اتهامهما بإخلالهما بالواجبات المترتبة عليهما، وذلك في تشرين الثاني 2022. غير أن الجلسة التي كانت ستشهد التصويت على قرار رفع الحصانات والاتهام بتاريخ 07/12/2022 قد طُيّرت، بحجة عدم جواز التشريع في ظلّ الشغور الرئاسي.
بدوره، أحال ديوان المحاسبة ملف المخالفات المالية إلى النيابة العامة لدى الديوان والنيابة العامة التمييزية كما هيئة القضايا في وزارة العدل، وذلك في سابقة قانونية تجيز للديوان فرض غرامات على الوزراء. وبتاريخ 28/03/2023 أبلِغ صحناوي وحرب بضرورة الامتثال للدفاع عن المخالفات المنسوبة إليهما.
قرار … مزحة
للوقوف عند رأيه، تواصلت «نداء الوطن» مع الوزير السابق نقولا صحناوي، الذي فضّل عدم التعليق على القرار طالما أن الملفّ لا يزال في عهدة القضاء.
من ناحيته، وفي اتصال معه، أشار الوزير السابق بطرس حرب أن الوزير ليس مخوّلاً محاكمة المرتكبين، لذا، وعند اكتشافه المخالفة القانونية، قام بإحالة الملف إلى النيابة العامة المالية. «صدر قرار النيابة العامة بعد سنتين ونصف، حينها كنت قد فقدت صفتي الوزارية لملاحقة الموضوع. أتأسف لوصف قرار القاضي بيرم بالتافه، لا بل أسمّيه «مزحة» وليس قراراً. لا أعرف ما هي خلفيته خاصة وأنه لم يأخذ في الاعتبار أن فسخ العقد وفّر على الدولة عشرات ملايين الدولارات التي كانت ستصرف على أعمال التجهيز والصيانة، علماً أن أحد بنود العقد تنص على إمكانية فسخه بعد ثلاث سنوات من توقيعه».
حرب الذي ينتظر قرار ديوان المحاسبة بعد أن تقدّم، منذ حوالى سبعة أشهر، بتعليل يوضح فيه حيثيات وتفاصيل الملف، يتمنّى أن يتمّ أخذ التوضيحات في الاعتبار من أجل تصحيح الخطأ الذي وقع فيه القاضي بيرم. «أنا أول من حارب الفساد في لبنان، فليبحثوا عن الفاسدين الحقيقيين بدلاً من التفتيش عن اعتبارات سياسية لتلويث سمعة من يفتخرون بتاريخهم الشريف»، كما يختم.
مسؤولية سياسية أم إدارية؟
في قراءة قانونية، يستند البعض إلى المادتين 70 و71 من الدستور اللتين نصّتا على أن محاكمة الوزراء يجب أن تكون أمام المجلس الأعلى حصراً. كذلك، على المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية التي تحمّل الوزير مسؤولية شخصية إذا ما اتخذ تدبيراً أدّى إلى زيادة في النفقات، دون أن تذكر جواز محاسبته أمام ديوان المحاسبة. بالمقابل، يعتبر آخرون أن ديوان المحاسبة هو المحكمة التي أناط بها المشترع صلاحية محاكمة المسؤولين عن مخالفة الأنظمة المتعلقة باستعمال الأموال العمومية في إدارات الدولة كافة. لذا، فإن ادّعاء الوزراء بعدم جواز محاكمتهم أمام ديوان المحاسبة ليس صحيحاً. فللوزير صفتان: الأولى سياسية ويتحمل مع سائر الوزراء تبعاتها؛ والثانية إدارية ويتحمّل شخصياً تبعاتها. لذا يقتضي الفصل بين العقوبات المالية التي يعود لديوان المحاسبة فرضها، والمساءلة السياسية التي تستوجب قضائياً محاكمة الوزير أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
السياسة هي الغالبة
في هذا السياق، نسأل وزير العدل السابق، البروفيسور ابراهيم نجار، عن السبيل لمحاكمة ومحاسبة الوزير المخالف. فيجيب مذكّراً بسابقة حصلت مع الوزير السابق شاهيه بارصوميان الذي حوكِم بعد أن رُفعت الحصانة عنه، غير أن تلك الحالة بقيت يتيمة. وتابع متأسّفاً على إدخال مسؤولين أمنيين متورّطين باغتيال الرئيس الحريري وغيره من الملفات إلى البرلمان تأميناً لحصانة نيابية وحمايةً لهم. «ينص الدستور على محاكمة النواب والوزراء أمام محكمة خاصة وهي عادةً لا تتشكّل ولا أظنّ أنها تصل إلى أي نتيجة. الموضوع نفسه جرى طرحه في قضية مرفأ بيروت حيث تمّت المطالبة بمحاكمة المسؤولين أمام المحكمة الخاصة وليس أمام المحاكم العدلية، ما يعني «لا محاكمة». هذا السباق الذي نشهده بين السياسة والقانون يؤكّد أن السياسة هي التي تغلب دوماً، وهذه إحدى مصائب لبنان. حتى ديوان المحاسبة لا يمكن اعتباره هيئة تأديبية أو قضائية. المحاسبة لا تحصل إلّا برفع الحصانات ومخالفة القانون في لبنان تكاد تكون شيئاً عادياً وسخيفاً لسوء الحظ. فلبنان اليوم لم يعد لا دولة قانون ولا دولة مؤسسات»، كما يختم.