ليس بالخبز والبنزين وحدهما يحيا اللبناني
أتتصورون أنكم، في القرن الواحد والعشرين، ستذهبون في آخر كل شهر لتتناتشوا “بونات” بخمس ربطات خبز شهرياً، وقارورة غاز كل 23 يوماً، وتنكتي بنزين وفيول كل خمسة عشر يوماً، وثلاثة كيلوغرامات رز وقليلاً من السكر بالسعر المدعوم؟ ما تفكروا وزير الإقتصاد بيفكّر عنكم!
هناك، في سوريا، يعيش المساكين على البونات، ونحن وسوريا أكثر من جيران. ما فيها فينا وما بها يجب أن يكون بنا. سوريا ولبنان يترابطان، في دروس التاريخ والجغرافيا، كما مصارين البطن، لكن ماذا لو أصاب المصارين مرض عضال؟ ماذا لو لم يعد الجهاز الهضمي قادراً على البلع والهضم والعيش بسلام؟
إنهم يريدون إحياء العضو المريض بالقوة، ودائماً على حساب لبنان واللبنانيين، معلّلين أن فلسفاتهم اللبنانية، المماثلة لفلسفات سورية، هي لخدمة الفقراء والعامة. إنهم يريدون هنا، كما هناك، جعل المواطنين يلهون في احتساب حبات السكر والرز و”شكر الحكومات”، وتنشق رائحة المازوت والبنزين والقول “خيّ”، والإصغاء الى لغة “المنصات” وأنظمة “التعاميم” على أنها الحكم المبرم. فهل نظام القسائم يُشبهنا؟ هل هذا الأسلوب المتبع حكومياً يُشبهنا؟
لويس حبيقة، الخبير الإقتصادي، يستغرب كلّ الكلام عن نوايا لاعتماد توزيع البونات بالمحروقات والخبز، بالسعر المدعوم، على المعوزين ويقول: من يضبط حصول من يستحقّ لهذه القسائم؟ ومن يضبط ألاّ يعود ويبيعها من حصل عليها؟ ويسأل: هل نملك اليوم جهازاً إدارياً ومالياً وأمنياً قادراً على تحديد من له الحقّ بهذه البونات ومن لا حقّ له بها؟ هذه الخطوة، إذا اعتمدت، ستؤدي الى تغيير كل “السيستام” المعتمد.
كنا نسمع السوريين يتحدثون عن “بونات” ينتظرونها بفارغ الصبر. ونحن نرى الفلسطينيين في المخيمات واللاجئين السوريين في لبنان ينتظرون “البونات”. لكن، سيكون جديداً علينا رؤية اللبنانيين ينتظرون آخر كل شهر قسيمة تحدد لهم أقصى ما يمكنهم تناوله واستهلاكه بالسعر المدعوم؟
فلنذهب الى سوريا، لسؤالها عن رأيها بالخطوة التي هناك من يُفكر بها في لبنان؟
يونس الكريم، الخبير الإقتصادي السوري الذي يعيش في فرنسا، يستغرب سماع لبنان يتحدث عن اعتماد نظام القسائم إسوة بما يحدث في بلاده ويقول: لا يمكن تطبيق هذا النظام في لبنان لأنه لا يملك مؤسسات قادرة على التوزيع بعدالة، ما يجعل هذا التوزيع يقوم على المحاصصة الطوائفية، ناهيكم أن وزارة الإقتصاد في لبنان صممت، في هيكليتها الأساسية، لتعزيز التصدير والإستيراد لا مواكبة “مجاعة المواطن”. ويستطرد: البونات عبارة عن قسائم تؤمن حصول المواطن على بعض السلع مدعومة من الدولة أما السلع الأخرى فتُحرر أسعارها. وكلنا نعلم أن اللبناني ليست مشكلته مع كيلوغرام الرز والسكر، بل كل من يعرف لبنان واللبنانيين يعرف أن هؤلاء لا يمكنهم القبول، مهما شعروا بالعوز، بقبول بعض السلع المدعومة وحجب عنهم وسائل العيش الفعلية. وهذا ما منع الحكومات اللبنانية المتعاقبة أن تفكر، حتى في زمن الحرب اللبنانية، بنظام البونات كوسيلة لتأمين الإحتياجات. وهذا التفكير المستجد يُظهر لبنان “المتقوقع” على نفسه، كما الأنظمة الديكتاتورية، وهذا لم يكن حاله يوماً حتى في أقسى محطاته.
نظام البونات اعتمد في سوريا منذ عقود، منذ العقوبات التي فرضت عليها في الثمانينات بُعيد مجزرة حماة، وخلالها ذاق كثير من السوريين المرارة. وفي العام 2010 ألغي نظام البونات ليعود ويطبق من جديد مع توالي تطبيق العقوبات. واليوم، مع الأزمة الإقتصادية الهائلة في لبنان وعقوبات “قيصر”، يبدو أن هناك طرفاً ما في لبنان يُفكر كما تفكر سوريا، غاضاً الطرف عن الرئات التي يتنفس بها لبنان. فبيروت التي نجحت ذات زمان في استقطاب العالم ستظهر، بأفكارِها الجديدة، وبالفلسفات التي لا تشبهها، وكأنها دولة ديكتاتورية منغلقة. وسيُفكر المستثمرون الذين ما زالوا يتمسكون بالصمود فيها بإغلاق مؤسساتهم والمغادرة نهائياً. فالمستثمر الأجنبي، بحسب يونس الكريم، لن يصمد طويلاً في دولة تتجه الى الإنغلاق وتحكمها دويلة، وناسها ينتظرون آخر الشهر “بونات” مقابل الحصول على قارورة غاز وتنكة مازوت وكيلوغرام من السكر. لبنان جذب العالم بناسه وآفاقه ونظامه الإقتصادي الحرّ. لبنان ليس سوريا، وسوريا لن تكون مثل لبنان.
هل تطبق البطاقة الذكية هنا؟
ما رأي لويس حبيقة بهذا الكلام؟ يجيب: دول كثيرة في العالم تدعم شريحة المعوزين خصوصاً في الايام الصعبة. نظام الكوبونات استخدم في الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1973 و1979 حين رفضت الدول العربية بيع النفط الى أميركا. وهناك حالياً في تلك البلاد نظام food stamps والهدف منه مساعدة الفقراء. هذا النظام مقبول شرط ألا يتسبب بهدر الدولة. نحن في لبنان لا يمكننا تطبيق هكذا نظام لأننا نعلم جيداً أن كل إدارة تدخل في فلك الدولة تفشل. لهذا، من الأجدى أن يُعطى الفقراء مساعدات مالية من الدولة اللبنانية. فليحصل من يحتاج على 400 ألف ليرة أما نظام الكوبونات فسيوزع بالتأكيد على الأزلام.
اللواء عصام أبو جمرا كان وزير إقتصاد أيام حكومة العماد ميشال عون بين العامين 1988 و1990. وهو أبى يومها استخدام البونات (علماً أنها اعتمدت لوقت قصير بما خص المحروقات) وقال: لا أقبل بها. فلبنان دولة ذات إقتصاد حرّ. ونظام القسائم معقّد جداً لا يتلاءم مع طبيعة لبنان الإجتماعية والإقتصادية. ويستطرد: فليراقبوا الصرافين بدل أن يفكروا بفلسفات لا تشبهنا. فليوقفوا ارتفاع الدولار وضخّ أفكار، كما الشاروقة التي تهدر كل شيء، في الأماكن الخاطئة. لكن، في أميركا يعتمد نظام توزيع قسائم المعونة الغذائية أيضا؟ يجيب أبو جمرا: الولايات المتحدة الأميركية واسعة جداً وشعبها منضبط وكل شخص يفرض “كونترول” على نفسه، ويحق له حتى بشراء السلاح من المحال، فلا يمكن بالتالي التذرع بالتجربة الأميركية لتطبيق نموذج لا يُشبهنا في لبنان.
أميركا لا تشبه لبنان ولبنان لا يشبه طبعاً سوريا. والتفكير بنظام البونات، في هذه الفترة الزمنية، جعل المسألة وكأنها توجّه من توجهات سوريا-الأسد، لا أكثر ولا أقل.
في سوريا، يُنظمون النهفات، المجبولة بالألم، على هذه الصيغة المعتمدة في توزيع القسائم المسماة ذكية على المواطنين. وهم يرون فيها صيغة سوفياتية، إشتراكية وقديمة، والنظام السوري يعتمدها من أجل امتصاص غضب الناس نتيجة الضغوطات التي تتسبب بها العقوبات. ويبدو أن لبنان يحاول امتصاص نفس الغضب بنفس الطريقة، علماً أن لبنان يعرف جيداً، كما تعرف سوريا، أن العقوبات المفروضة تبقى حتى هذه اللحظة ناعمة، والأزمات الإقتصادية-الإجتماعية التي يعيشها اليوم لبنان ليس حلّها (ولن يكون) بقسيمة محروقات أو غذاء مدعومة، بل بسياسة شفافة واضحة.
هناك، في سوريا، يتحدثون عن ثغرات نظام “البطاقة الذكية” وعن توكيل هذا النظام الى مقربين من أسماء الأسد، وعن محاصصات وأسماء مستفيدة تزيد بكثير عن إستفادة المساكين السوريين منها، ناهيكم عن الأخطاء التقنية الكثيرة التي تحوط بها وعن الفوضى في التوزيع، وحرمان من يستحق من السوريين من حصصهم الشهرية وعن أسعار المحروقات الخيالية في السوق السوداء. وهو ما قال النظام السوري أنه عزز نظام “البونات” من أجل محاربتها.
هنا، في لبنان، تعجبهم “الأفكار الأجنبية” فكيف إذا أتت من “شقيقة”؟
رمى وزير الإقتصاد قصة دعم المحروقات وفق قسائم توزع على المحتاجين وعلى أصحاب اللوحات العمومية و… وعاد وصمت. هو يعرف تماماً أن هذا النظام معقد، وأن طرحه قد يلحق بطرح منح بعض العائلات التي تملك شروطاً معينة مبلغ 400 ألف ليرة، وأن اللبناني لا يستطيع، مهما كان معوزاً، أن يعيش ليأكل. وزير الإقتصاد، والحكومة بأسرها، والدولة بأمها وأبيها، يحاولون إلغاء خصوصيات لبنان بدل أن يسعوا الى وضع النقاط وبسرعة على حروف قد توقف على الأقل الإنزلاق السريع نحو القعر.
وفي حين نسأل عن نظام البونات يكون جواب الكثيرين أن لبنان دخل في متاهة لها أول وليس لها آخر، تحاول الدولة مداواة تأثيراتها بالأسبرين وببعض ضمادات الجروح الفاشلة. والحلّ؟ أجاب أحد المراقبين: سلاح الجوع سيكون أقوى من كل سلاح. إنتظروا تتأكدوا.