إستعراضات المداهمات وحملات التفتيش بلا جدوى
في الوقت الذي تجتمع الحكومة لتأمين القمح والزيوت في الفترة المقبلة بعد قرار العديد من الدول عدم تصديرها بسبب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، ثمة واقع على أرض السوبرماركات والمستودعات والدكاكين يشي بأن أسعار المواد الغذائية تشبه لعبة «اليويو» لجهة قفزها المستمر صعوداً، وتفاوتها بين متجر وآخر من دون حسيب أو رقيب فعلي تقريباً. إنه سيناريو جديد (بعد سياسة الدعم التي أهدرت المليارات) يدر أرباحاً طائلة على قسم من التجار والمستوردين بتواطؤ وتغاض من أهل السلطة.تروي السيدة كارول سلوم لـ»نداء الوطن» «أنها اشترت كيلو السكر من أحد الدكاكين الصغيرة في منطقة شويفات بـ36 ألف ليرة، في حين أن جارتها اشترته من دكان آخر في الحي بـ 30 ألف ليرة»، كما تقول أن «الفارق في سعر أحد مساحيق الغسيل بين الدكانين بلغ 50 ألف ليرة».
مسرحية الحرص على المواطن
ثمة مسرحية رسمية أبطالها بعض أهل السلطة من وزراء وإدارات عامة يحاولون إقناع الرأي العام اللبناني بأنهم يبذلون جهودهم لإبقاء تداعيات الأزمة الغذائية الناتجة عن الحرب الروسية الاوكرانية بعيدة عنه، وأنهم يقومون بسلسلة إتصالات لتأمين الأمن الغذائي في البلد. لكن العارفين بكواليس التجارة يؤكدون أن هذه المسرحية لا يمكن أن تنطلي على من يريد التدقيق بالوقائع.
يشرح أحد مستوردي المواد الغذائية لـ»نداء الوطن» أن «الاستهتار بلقمة الشعب اللبناني تبدأ من السياسيين الذين لم يعمدوا إلى شراء القمح وتخزينه في مستودعات مصلحة الابحاث الزراعية في البقاع مثلاً (صالحة لتخزين الكمية التي كانت تخزنها أهراءات بيروت)، بالرغم من ان طبول الحرب كانت تقرع منذ أشهر. آثرت الحكومة ترك هذا الأمر لتجار يدورون في فلك سياسيين وهم يخزنون حالياً أطناناً من الطحين والقمح في مستودعات خارج بيروت. ويترقبون الأسعار العالمية التي سترتفع كي يتم بيع الكميات على السعر الجديد»، موضحاً أن «هذا الاسلوب سينطبق على الزيوت أيضاً والدليل هو ما تم كشفه منذ نحو أسبوع عن مستودع للزيوت يعود لأحد أكبر تجار المواد الغذائية في لبنان، فيما رفوف السوبرماركت التي يملكها فارغة، واليوم هناك أكثر من تاجر يخزن آلاف الأطنان منها ويقولون إنهم يستوردونها من أندونيسيا أو البرازيل (لزيادة كلفة النقل بالاضافة إلى ارتفاع السعر عالمياً) ومن ثم إنزالها إلى الاسواق».
تفاوت الأسعار ولا ضبط
يوافق رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو على هذا السيناريو، شارحاً لـ»نداء الوطن «أن هناك تفاوتاً في أسعار السلع بين السوبرماركات بفعل الفوضى الشاملة وعدم استقرار البلد وغياب الدولة. ولم يعد هناك أي معايير تضبط تسعير المواد الغذائية»، مشيراً إلى أن «سيطرة الاحتكارات وغياب أي حل سياسي أو إقتصادي في البلد يدفعان الكثير من التجار إلى انتهاز الفرصة لجني ثروات خلال هذه المرحلة تحت شعار أن لبنان يتبنى الاقتصاد الحر وعلى المستهلك إختيار ما يناسبه». ويؤكد أن «الجمعية رصدت بعض الأمثلة حيث يصل الفرق في سعر السلعة الواحدة بين دكان وآخر الى 50% تحضيراً للمؤشر الذي تصدره كل 3 أشهر، وهناك الكثير من المتاجر لا تلتزم بالأسعار التي تعلنها للوزارة».
يرى برو أن «وزارة الإقتصاد تستعرض إعلامياً لضبط الاسعار. والواضح أن ذلك لم يؤد إلى نتيجة ولذلك جرى التراجع عن الاستعراض قليلاً، وما يحاولون القيام به هو إلزام التجار بالتصريح عن أسعار السلع أسبوعياً لتنظيم مؤشر أسعار ويتم إعلانه»، لافتاً إلى أنه «سبق أن طبق هذا الاجراء في العام 2001 لكن سرعان ما تم التراجع عنه بفعل ضغط التجار على المسؤولين السياسيين آنذاك لأن وزارة الاقتصاد أعلنت من هي المتاجر الملتزمة بالقوانين، أما اليوم فالوزارة تطبق هذه الطريقة ولكن من دون الاعلان عن الأسماء، وبالتالي لا قيمة فعلية لهذا الاجراء، لأن هناك تسعيرة موجودة للبضائع على الرفوف وأخرى على الصندوق. والارقام التي ترسلها المتاجر الى وزارة الاقتصاد غير موثوقة تماماً».
ويقترح «حلاً تقنيا يوفر الجولات التي يقوم بها مندوبو مديرية حماية المستهلك، وهو رصد مدى تطبيق لوائح الاسعار التي ترسلها السوبرماركت إلى وزارة الاقتصاد على صناديق المحاسبة ومن دون أن يكشف المراقب عن هويته»، معتبراً أن «الحل الجذري هو بتغيير السياسات الاقتصادية وتطبيق الدستور اللبناني وفتح باب المنافسة بالكامل، ومنع احتكار عصابات الداخل الذين أثبتوا بالملموس مدى خطورتهم على البلد كونهم يتحالفون مع الطبقة السياسية لتبادل الفوائد».
بين الاحتكار والتقنين
مقابل هذه الملاحظات التي تسجل على الأداء الرسمي لضبط الاسعار وعلى التجار لجهة إحتكارهم البضائع ورفع الاسعار، ثمة وجهة نظر أخرى يقدمها رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي لـ»نداء الوطن» ، اذ يدعو إلى «الاتفاق أولاً على معنى مفهوم الاحتكار. وهو برأيه إفراغ رفوف سوبرماركت معينة بينما البضائع موجودة في مخازنها، في هذه الحالة يجب معاقبة صاحبها، أما حين يسلم التاجر هذه البضائع بشكل مقنّن، منعاً للتخزين المفرط في المنازل التي يلجأ إليه المقتدرون بينما أصحاب الدخل المحدود لا يمكنهم ذلك فهذا ليس احتكارا»، داعياً إلى»اتباع سياسة تقنين عقلاني للبضائع التي نعاني صعوبة في استيرادها لا سيما الزيوت والقمح بسبب الأزمة الأوكرانية». ويوضح: «البضائع موجودة وهناك نقص يحصل بسبب تهافت المواطنين على شرائها وتخزينها، والمطلوب هو التروي في شراء البضائع، ويجب أن يحصل تعاون بين وزارة الاقتصاد ونقابة السوبرماركات ونقابة المستوردين لإيجاد آلية عقلانية لتوزيع البضائع وتلبية حاجات السوق من دون أن يحصل إحتكار».
يشدد بحصلي على أن «ترسيخ الامن الغذائي هو من واجبات الدولة سواء أكانت في أزمة أم لا وليس من واجبات القطاع الخاص والتجار ولا يمكن التفلت من هذا الواجب مهما كانت الاسباب. وهذا ما يحصل في كل الدول مهما كانت الازمات التي تعصف بها»، سائلاً «لماذا نطلق صفة الاحتكار على التاجر الذي يخزن بضاعته ولا نطلقها على المواطنين الميسورين الذين يخزنون البضائع في منازلهم لأشهر طويلة من دون إحتساب أن هناك فئة بمدخولها المحدود لا يمكنها الشراء إلا في فترة معينة من الشهر وبكميات محدودة ؟». ويرى أنه «قبل الأزمة الأوكرانية كنا نتخبط بأزماتنا الداخلية وهذا يوجب على المستوردين إتباع آلية معينة، أما اليوم فنحن نعيش أزمة عالمية وتتطلب آلية عمل مختلفة تشبه الآلية التي يتم إتباعها لشراء النفط»، مشيراً إلى أن»أسعار الزيوت النباتية في السوق العالمية عادة لا تشهد إرتفاعات كبيرة ويمكن أن يكون هناك ثبات معين، وحين تتقلب الاسعار بطريقة غير منطقية من حق التاجر حفظ رأسماله ورفع الاسعار كي يتمكن لاحقاً من إستيراد نفس الكمية، وبالتالي رفع الاسعار ليس أرباحاً بل هو تغطية لرأسماله التشغيلي. وهذا يعني أنه حين تنخفض الأسعار على التاجر أيضا خفض أسعار سلعه». يوافق بحصلي على أن «هناك تجاراً لن يقبلوا بذلك. وهذه هي المعضلة في لبنان وعلى وزارة الاقتصاد إجبارهم على خفضها. لكن هناك أزمة تتمثل بانقطاع زيت الذرة ودوار الشمس عالمياً. ولا يمكننا أن نتدلل على أي مورد يمكنه تأمين حاجات السوق اللبناني في هذه المرحلة خصوصاً أن الاسعار إرتفعت وكلفة النقل زادت أيضا».