الشارع يواجه استدعاءات السلطة بـ«سلسلة التحركات الصامتة»
«دخلنا إلى وزارة الشؤون الإجتماعية قبل الظهر فكانت الأرجاء فارغة من الموظفين والهدوء يغلب على المكان في وزارة بالغة الأهمية بالنسبة الى اللبنانيين الذين يعوّلون عليها الكثير من الآمال!».
بهذه الكلمات يلخص الناشط في «الثورة» علي عباس لـ«اللواء» المشهد في إحدى وزارات الحكومة التي يفترض أنها كانت وليدة إنتفاضة اللبنانيين وجاءت لتتماهى مع مطالبهم. هناك، لم يواجه النشطاء سوى عناصر القوى الأمنية التي حضرت بديلة عن الموظفين في الوزارة، بعد تحرك مباغت دفع بالأمن الى الحضور سريعاً ومنع التجمع بالقوة.
شكل ذلك رسالة رمزية متعددة الأوجه من قبل الناشطين، وجاءت «سلسلة التحركات الصامتة» هذه في توقيت دقيق يشير الى التدهور متعدد الأوجه الذي تسير فيه البلاد نحو الكارثة الاجتماعية والاقتصادية. وفي الوقت الذي يجتمع فيه جزء من السلطة في بعبدا في «لقاء وطني» أريد له اتخاذ الطابع الاستثنائي، تأتي التحركات المتجددة لمجموعات الناشطين التي تتخذ دوماً من عقم أداء المنظومة الحاكمة رافداً لا ينضب للخروج بخطاب يدين السلطة التي لم تتعظ من كل ما جرى في البلاد حتى الآن.
تصاعد في الإستدعاءات
وتأتي الإستدعاءات المتزايدة للناشطين والتوقيفات لتشير بوضوح الى اتجاه السلطة تجاه المتحركين ضدها على الأرض. «أركان السلطة في حرج من أمرهم وهذا ما يفسر الاستدعاءات المتزايدة في مناطق مختلفة من البقاع الى طرابلس الى برجا في إقليم الخروب..». يقول عباس الذي يضيف: إنه اتجاه متدرج نحو «الدولة البوليسية» ونحن نشعر بنيّة إستباقية لتوقيف كل من ينادي بالمطالب المحقة.
بات الأمر واضحا بالنسبة الى الناشطين على الأرض، ولسان حالهم أن السلطة تعمل من دون كلل لشيطنة الحراك وجره الى مسار عنفي لتبرير الارتكابات في حق المحتجين. يشير عباس الى أن السلطات تلجأ الى إرغام الناشطين على توقيع التعهدات، بينما ترهب من تطلق سراحه لكي تردعه «وهي تأخذ الصالح بحق الطالح وتعمد الى ربط ملفات الجميع ببعضها البعض في مسار لتوريط الكل».
لقاء بعبدا: التحاور مع النفس
لم يشكل «اللقاء الوطني» في بعبدا بالنسبة الى الحراك الشعبي، سوى حلقة جديدة من محاولة كسب السلطة للوقت. يشرح عباس طويلا عن الثقة التي فُقدت مع المنظومة الحاكمة. «البلد غارق والسلطة تلجأ الى تجميع الوقت ورئيس الحكومة حسان دياب يلجأ أولاً الى تشكيل اللجان، ويريد منها ثانياً أن تقدم التقارير، ثم ثالثاً أن تقدم الحلول!». بالنسبة إليه كما إلى مجموعات الحراك، فإن لقاء بعبدا هو لزوم ما لا يلزم وانعقاده كعدمه!
وقد حاول الناشطون توجيه رسالتهم الى المجتمعين بالقرب من القصر الجمهوري في بعبدا، لكنهم منعوا من الاقتراب منه وهتفوا طويلا بعيدين كيلومترات عنه. «فالملتقون في بعبدا يتحاورون مع أنفسهم وهم أصل البلاء الطائفي والمذهبي والعصبيات السامة وهم شرعوا في مسرحية هزلية على الشعب ويريدون حلا لأزمة كانوا هم وراءها».
والحال أن الواقع بالنسبة الى الحراكيين كما الى شرائح واسعة من الشعب لا يمكن أن يُكمل على المنوال الكارثي نفسه، والمسألة تتطلب تغييرا جذريا وإلا فإننا سنذهب الى الخراب والفوضى، كما يلفت عباس.
تصعيد موازٍ للتحركات
وفي موازاة التصعيد المتدرج من السلطة، سيقابل الحراك ذلك بتصعيد متدرج موازٍ، يرفع المطالب التي خرج بها منذ 17 تشرين الأول الماضي وحتى قبله.
وتجتمع الشرائح الأوسع في الانتفاضة على مطلب تعيين حكومة إنتقالية مستقلة ومرحلية، ذات صلاحيات إستثنائية، تشرع في خطة إصلاحية جديّة عبر ولوج الحل السياسي. هي حكومة إنقاذية تتفادى الوقوع في فخ الشروط والشروط المضادة وبالتالي تخرج عن الواقع التحاصصي القائم، والذي اعتقد كثيرون أن حكومة دياب لن تقع فيه.
والواقع أن كرة الثلج الشعبية قد تكبر مع الايام، وستعود التحركات أمام مقرات الرئاسات والوزارات، ولا يكل الحراك من التكرار بأن السلطة الحالية غير جديرة بمعالجة الإنهيار المالي الذي جاء نتاج فساد أحزابها وشخصياتها وسوء إدارتها، وهو ما لم يكن لها القدرة على فعله لولا عقم النظام السياسي الذي أدى إلى شلل الدولة على مدى عقود وادخل البلاد في حروب أهلية دورية.
ومن دون قمع «الفيتوات» الطائفية التي حمت المرتكبين، لن يكون في المقدور التغيير المطلوب جذريا وخرق حالة الشلل القائم. لذلك، سيرتفع من جديد المطلب الأساس وهو محاسبة المسؤولين المرتكبين واستعادة الأموال المنهوبة والمُهربة.
وبما أن هذا الأمر يتطلب قرارا جريئا من قبل السلطة، وهو قرار سياسي في جوهره، فإن غياب الثقة سيدفع الشرائح المحتجة على السلطة الى تفعيل تحركاتها وتوسيعها وربما اللجوء الى أعمال عنفية في مواجهة مسؤولين ساهموا بنهب الدولة وإفقار الناس.
مساعي التوحيد غير ناضجة
في مقابل ذلك، ثمة مسؤولية على المنتفضين أنفسهم. إذ منذ قيام التحركات، إتسم عمل المجموعات ببعض الفوضية في ظل شعارات توحيدية إستهلاكية.
يمكن الإقرار باختلافات وحتى خلافات بين المجموعات حول الأولويات أو حتى حول قضايا ذات شأن. وإذا اتخذنا مثالاً ممانعة التعامل مع «صندوق النقد الدولي، فهو مطلب يجمع غالبية المنتفضين الذين يرفضونه لناحية أنه سيأتي بالمزيد من الإفقار للبنانيين وسيفرض إجراءات قاسية في حقهم. لكن تقديم البديل عبر خلع السلطة واستعادة الاموال المنهوبة لن يكون فاعلا من دون توحيد الجهود وتشكيل إطار يجمع الكل.
ويشير عباس الى أن المساعي قائمة لذلك لكنها غير ناضجة حتى الآن ولم تتبلور. لكن ذلك لا يعني عدم واجب المجموعات للّقاء في إطار يمكن تسميته بـ»17 تشرين» لتشكيل رؤية موحّدة تحدد معالم لبنان الجديد من حيث نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبات من الضروري تقديم البديل الجدي والواقعي المُجدي والمُنتج، عبر برنامج واضح يُحرج السلطة المراهنة دوماً على خلافات الناشطين ويأسهم.