IMLebanon

بؤس الإنتلجنسيا العربية: احتقار الناس والتفكير

اختارت الإنتلجنسيا العربية الثقافية منذ ثلاثينيات القرن العشرين احتقار التنظير والتفلسف والجدل، اختارت الانقطاع عن الحوار، مع نفسها وفي ما بينها أولاً، واختارت الانقطاع عن العالم ثانياً. لا مانع لديها من التقنيات، أما الإنسانيات فهي علوم خطرة. أجادوا التكنولوجيا وأهملوا الوعي الثقافي. لا مانع من سيارات وطيارات الغرب، لكنهم أقاموا حاجزاً بينهم وبين أفكار الغرب. اختاروا عدم الانخراط في هذا العالم. هم فيه وخارجه. هم فيه ماديا وخارجه بوعيهم. الغرب بنظرهم ليس درجة عليا من الحضارة التي يجب على بقية العالم بلوغها، بل هو خطر على الثقافة المحلية، فالواجب تدميره.

وضعوا الشريعة بينهم وبين العالم. بعضهم استخدم تعبير الأمة والبعض الآخر استخدم تعبير الطبقة. لم تكن الشريعة أداة تشريع وحسب، من الطبيعي أن المسلم يحاكم الأمور وصولاً إلى كتابة الدساتير والقوانين بخلفيته الإسلامية الموروثة وبعقله، المجاوز أحياناً. لم يدركوا أن المسلمين لا يحتاجون إلى وسيط بينهم وبين الكتاب المقدس كي يكونوا مسلمين، وأنهم لا يحتاجون إلى الكتاب إلا بينهم وبين الله. لا يحتاج المسلمون إلى هداية وإلى تبليغ. هم مسلمون، نطقوا بالشهادتَين، وهذا يكفي. الأهم من كل ذلك أن دعاة تطبيق الشريعة لم يدركوا أن الشريعة الإسلامية وكل شريعة أخرى، هي وضعية بغض النظر عن مصدرها الإلهي. في النهاية، العقل البشري، اللجنة أو الهيئة المكلفة، وضعت الدستور أو القانون بناء على فهمها للكتاب. هذا الفهم ليس كلام الله بل هو فهم بشري بمثابة ما هو وضعي.

وضعوا بينهم وبين العالم الأمة. ما اعتبروا أن الأمة تصنع، هي كيان سياسي يصنع في دولة وإلا بقي أمنية أو وهماً، وربما اندثر هذا الوهم بفعل الحروب الأهلية والهجومات الخارجية المتكررة. اعتبروا الأمة كيانا جوهرياً خارج الوجود، ربما في السماء، يتجلى بين الحين والآخر، فيحصل للمنتمين للأمة، أو للذين يفترض بهم هذا الانتماء، يحصل لهم المجد، يستعيدون هذا المجد ويحيلونه أمجاداً. ما الإنسان العربي إلا وجود ينتظر التجلي بين الحين والآخر. رفضوا أن الأمة لا تتحقق ككيان إلا بالسياسة، تتحقق في دولة. أهملوا شأن الدولة فجعلوا الأمة بعيدة المنال.

أخذوا بالتحليل الماركسي، أو اليساري عموماً، واعتبروا الطبقة العاملة وحدها حاملة التقدم، بل والخلاص. يدل التحليل العلمي للمجتمعات أنهم تحولوا إلى ما يشبه الأديان الخلاصية. أهملوا مسألة الوعي والعقلانية، قليل مما عندهم من كتابات سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخها يحوي تحليلاً أصيلاً. استطلاعات الرأي تكفي لإدخالهم في الحداثة واجترحوا على أساسها بعض الكتابات للقول إن طبقة عمالية سوف تبرز مثل المهدي المنتظر وستخلص العالم من الجور والظلم. لم يتآلفوا مع مفهوم الدولة على أساس أنها آلة ظلم ستقضي عليها الطبقة المنتظرة. اعتبروا الدولة كائناً غريباً عنهم إلا في لافتات ترفع في خضم المنازعات على السلطة.

الإسلاميون والقوميون واليساريون، ولكل منهم أحزاب تنشق انشقاقات عقيمة، ليس حول قضايا الشعب، بل حول السلطة؛ فكأنهم وهم خارج السلطة جزء من نزاعاتها. تصرفوا خارج السلطة وكأنهم في داخلها؛ فكأنهم يعلمون أن مَن في السلطة هم تلامذتهم الفكريون حتى لو وضعوهم في المعتقلات.

بنية فكرية واحدة لدى كل هذه الفرق. كائن غيبي منتظر مجيئه. التهيئة لمجيئه تحتاج إلى توعية وهداية. يصير الانقلاب العسكري مبرراً. يبرر نفسه على أنه المهدي المنتظر. تنهال برقيات التأييد؛ معظمها مفتعل. جعلوا الانقلاب (أو الثورة) مقولة جوهرية بينما البشر ظواهر وأعراض. وحدها الإنتلجنسيا تعرف. الشعب وسيلة. الإنسان أداة. ان لم يفهم، فإن مصيره السجن والتعذيب. تحالف الإسلاميون والقوميون والماركسيون الستالينيون مع السلطة السياسية «الثورية» من حيث يدرون أو لا يدرون. هم أيضاً أدوات. صاروا امتدادات سياسية للأنظمة، برغم أنهم يتنقلون من نظام إلى آخر حسب الظروف؛ هذا بينما السلطات السياسية العربية تتصارع في ما بينها لأسباب معروفة.

فرق أيديولوجية ثقافية، بدأت معارِضة، صارت امتدادات للأنظمة. أهملت العمل مع الشعب، احتقرت الناس، اعتبرتهم أيضاً وسائل لممارسة السلطة. الأنظمة العربية بارعة في استخدام الخصوم والأتباع في لعبة السلطة. لم تفهم حتى التغيير والإصلاح والإنجاز بما يتقبله المجتمع ويتطور معه. عندها يحدث كل ذلك فجأة كما يهبط الوحي. صارت الثورة مفتاح كل الخلاص، بل مفتاح كل الفهم. ما عاد الإصلاح مطلوباً، أريد تغيير كل شيء، بما فيه البنى الاجتماعية، فجأة عن طريق الثورة بغض النظر عن رضا الجمهور.

احتقرت هذه الإنتلجنسيا التنظير والتفلسف والجدل. احتقرت التفكير. ما علينا إلا الممارسة. لم ندرك أن النظرية دليل الممارسة، وربما كانت النظرية والممارسة واحداً. لم تَعِ نفسها، وبالتالي لم تَعِ مجتمعها. ابتعدت عن السياسة، تناست أن السياسة ممارسة مستندة إلى النظرية والجدل في سبيل التسوية وتراكم التسويات، في سبيل الإصلاح. أرادوا ثورة، واعتبروها مؤنث ثور! فكانت ممارساتهم أشبه بالمناطحة. وما التطرف الديني وغيره، سوى شكل من أشكال المناطحة.