حين تدفع الدولة بشعبها إلى الكفر
ونحن نسمع أقوالهم عن أدوية مفقودة، ونرى سماتهم القبيحة، ونقرأ في الأسعار، لا يخطر في بالنا إلا مقولة «فلنضحك كلما استطعنا فهذا دواء رخيص»، لكن كثيرين فقدوا حتى القدرة على الإبتسام، فأيّ دولة نحن فيها، ليس فيها لا دواء ولا عزاء، بل بشاعة بشاعة بشاعة؟
في هذه اللحظة، في هذه اللحظة بالذات، هناك مريض يلفظ الروح بسبب عدم قدرته على الحصول على الدواء! وهناك مرضى، بالجملة، تسوء حالهم بسبب فقدان الدواء! فهل يمكننا، والحال هذه، الكلام عن دولة وإنسانية وحقوق وواجبات ومستقبل وأحلام ورؤى؟ هل تستحق دولة كهذه أن نسدد ضرائبها ونسمع كلامها ونرضخ لقراراتها؟
لا أدوية في الصيدليات. النقيب جو سلوم قال لنا امس الأول: «بدأنا استلام الأدوية». إستبشرنا خيراَ. لكن، البارحة، لم يجد حَمَلة الوصفات الطبية ثلاثة أرباع الأدوية الموصوفة. إحداهن بحثت عن دواء الضغط «كونكور 5 بلاس» في أكثر من عشر صيدليات لكنه مفقود. ثمة بديل عنه على ما سمعت: «بيزوكور 5 بلاس»، وهو لبناني. إشترته لوالدتها وهي التي لم تنس نصيحة الطبيب: «لا تلعبوا أبداً بدواء الضغط». لا نصيحة ولا بلوط. الزمن تغير وكلفة مراجعة طبيب إختصاصي، لسؤاله عن «بيزوكور»، تبدأ من 500 ألف ليرة وطلوع. قهر ثم قهر. اللبنانيون يا من سموك دولة يخسرون، بعد كل ما خسروه بسببك، صحتهم أيضا.
أدوية ألأمراض المزمنة، أو ما توافر منها، إرتفع ثمنها. رفعوا عنها الدعم. أصبحت أسعار تلك الأدوية على سعر صرف 23,500 ليرة للدولار الواحد، أي بزيادة 13,6 في المئة. والمواطنون، 99,999 من المواطنين، لم يعيروا انتباهاً لتلك الزيادة. همومهم أصبحت أكبر حتى من صحتهم ومالهم «رايح رايح». ووزير الصحة، فراس الأبيض، أعلنها بوضوح: سنتوقف عن دعم الأدوية المستوردة المنافسة للأدوية المحلية. هو حكى مرة واثنتين وعشر مرات عن أن «مشكلتنا» تكمن في أن دعم مصرف لبنان للدواء غير كاف». معاليه، مثله مثل اللبنانيين «ينق» أيضا. مسؤولونا، بالجملة، غير مسؤولين.
رفع دعم
جو سلوم، نقيب الصيادلة في لبنان، هل لديه ما يُريح الناس والصيادلة بالفعل لا بمجرد قوله «بدأنا استلام الدواء»؟ يجيب «نحن، بقولنا أن مخزون الصيدليات قد انتهى، إنما أردنا توجيه صرخات تحذيرية، بمثابة جرس إنذار، وتلقينا بشائر إيجابية». ماذا يعني ذلك؟ هل حُلّت الأزمة؟ هل سيجد من يحتاج الى دواء دواءه؟ يجيب «يتمّ استلام الأدوية، منذ وقت طويل، بشكلٍ ضئيل. في كل حال، الدواء المصنّع محلياً أصبح يغطي نحو خمسين في المئة من الحاجات. والبارحة (قبل يومين) رُفع الدعم عن الأدوية التي لها بديل مصنّع محلياً. وسيتم تحويل الدعم الى المواد الأولية المستوردة في صناعة الأدوية والأدوية السرطانية». نتذكر هنا الشابة فوزية فياض التي صارعت المرض الخبيث، ورفعت الصوت عالياً عندما انقطع عنها وعن سواها الدواء قبل أن تخسر المعركة. فوزية ارتاحت غيرها لا. وزير الصحة ونقيب الصيادلة تكلما على دعم الأدوية السرطانية بالمبالغ التي كانت «دولتنا» تدعم بها الأدوية المزمنة. ونحن، طبعاً، لم نصدق أن ما سيحرمون منه ناسا سيفيدون به آخرين.
نحن متجهون الى تغيير كل الأدوية التي اعتدنا عليها بأدوية محلية. ممتاز طبعاً. هذا ما كان يفترض أن يتمّ من زمان، لكن ليس عنوة. وليس بعد قهر متمادٍ وهلاك الكثيرين الباحثين عن دواء أجنبي «براند» أو محلي. لم يكن يهم هؤلاء «مصدر الدواء» بقدر ما يهمهم فعاليته وتوافره. لكن، كما ترون، «هلق عميحكوا بالليسترين»، في وقت تتمادى فيه الأمراض في الأجساد. والمرض طبعاً لا ينتظر.
جملٌ كثيرة تتكرر على لسان نقيب الصيادلة بينها: «لا يمكن أن يلغي الدواء المصنّع «البراند»المبتكر نهائياً. لهذا علينا أن نحافظ على المكاتب العلمية. فثمة أمراض معينة بحاجة دائما الى أدوية جديدة مبتكرة. لهذا يفترض تزامن الصناعة المحلية مع الإستيراد الدوائي. نحتاج الى شراكة بين المصنّع الجيد والمستورد الجيّد. نحتاج الى سياسة مستدامة قائمة على بطاقة صحية تساعد المواطن على تغطية الفاتورة الدوائية». نحتاج ونريد ونتوقع ويجب. نقيب الصيادلة دينامي جداً ويعمل، بحسب عارفيه، ليل نهار من أجل إحداث الفرق بين ما هو قائم وبين ما يجب. لكن، يبقى السؤال، هل اللبناني المريض، المتألم، المعدم، ما زال قادراً على الإنتظار.
توحيد الصناديق
الفقر هو صنو الجهل وصنو المرض ومتى اجتمع الثلاثة، الفقر والجهل والمرض، كفر الشعب بالدولة ومات في النفوس كل شعور وطني. فلماذا تدفع «دولتنا» ناسها دفعاً الى الكفر؟
البطاقة الدوائية مطلب. نقيب الصيادلة رفعه منذ اليوم الأول الذي استلم فيه منصب النقيب. وقد مضى على ذلك أربعة أشهر. ولا شيء يمنع أن تمرّ ولايته النقابية كلها وهو يردد: البطاقة الدوائية… البطاقة الدوائية… فهل من جديد حولها؟ هو يقول «تكلمنا عنها وأصبحت مطلباً جماعياً نتناقله ضمن استراتيجية معينة. آلية هذه البطاقة واضحة. إنها تحتاج الى موازنة صغيرة من الدولة حتى تصبح قابلة للحياة. وبقدر ما يكون حجم تلك الموازنة سيحدد سقف المساهمة في فاتورة المريض الدوائية. 10 في المئة أو أكثر». أمرٌ آخر لا بدّ منه، بحسب سلوم، «وهو ضرورة توحيد الصناديق الضامنة في صندوق واحد وآلية واحدة».
هل بين المواطن والصيدلي «وحدة حال» في تكبد سيئات هذا الزمان أم أن الثاني خان بدوره الأول؟ نقابة الصيادلة تجزم أن انقطاع الدواء يؤثر على الصيدلي ويجعله في ضائقة. فحين ينقطع الدواء يتأثر الصيدلي، مثله مثل المواطن، لأن دخله يتأتى من بيع الدواء.
مهم جداً هذا الكلام، لكنه لا ينفي وجود جشع لدى كثيرين من الصيادلة الذين يفرضون أسعاراً كما يحلو لهم وهم يقلبون، أمام الزبون، لوائح يرددون أنها بأسماء الأدوية وأسعارها التي تتغير كل لحظة. فمن يضمن حق المواطن بدواء سليم وبسعر صحيح؟ يتحدث نقيب الصيادلة عن 16 مفتشاً صيدلياً يجولون في كل لبنان، وقاموا بتفتيش 1600 صيدلية، وعشرات المستوصفات، وهناك 200 محضر. أما التهريب فيستمر على قدم وساق.
الدواء اللبناني
ماذا بعد؟ ماذا عن الصناعة الدوائية المحلية؟
معامل لبنان تُصنّع، منذ خمسينات القرن الماضي، كل الأمصال التي تستخدم هنا. وتقول نقيبة أصحاب مصانع الأدوية في لبنان كارول أبي كرم «نحن نصنع أكثر من 1370 دواء في اثني عشر مصنعاً لبنانيا من أصل 5000 دواء تقريباً متداولة في لبنان. ثمة أدوية كثيرة للأمراض المزمنة من ربو وسكري وضغط وإلتهابات وتوجد أدوية سرطانية أيضاً. نحن نلبي حاجات السوق من الأمصال صناعة لبنانية مئة في المئة والتحدي اليوم كبير جداً».
الأطباء، أو لنقل ثلاثة أرباع الأطباء، ألغوا، من تلقاء أنفسهم، كتابة الحرفين الأجنبيين: NS أي «غير قابل للإستبدال» من وصفاتهم المرضية. وهذا ما يمنح الصيادلة هامشاً أوسع في نصح المرضى بالدواء اللبناني كبديل عن دواء البراند الذي بات وجوده شبه نادر. في كل حال، يحكى أن قطاع معامل الدواء اللبناني يمكنه توفير نحو 250 مليون دولار من حجم فاتورة إستيراد الأدوية.
يحدثوننا عن بشائر إيجابية ثم يظهر أن الأزمة أشدّ من قدرة الكثيرين على مواجهتها. أحدهم، شاب في الثلاثين، ألمّ به داء يتطلب علاجاً طويل الأمد. هو مضمون. لهذا لا يمكنه أن يستفيد من تقديمات وزارة الصحة، والضمان الإجتماعي كما «الصحة»، أصبحا أسوأ من بعضهما البعض. هو يحتاج الى علاج لا قدرة للمواطن على تسديده، كما لا يمكنه استيراده، وفي الوقت نفسه لا يمكنه أن يعيش من دونه. الشاب ينزف الآن. هو يتصل يومياً بصيدلية الرحباني التي يفترض أن تؤمن له الدواء شهرياً. لكن، لا دواء. هو الآن في خطر. وحاله حال مئات مرضى السرطان في البلد. الأزمة كبيرة هائلة ويطل وزير الصحة ليقول: «لا حلول سحرية في ظل الأزمة الإقتصادية». لا يمكن تحميل الأبيض طبعا كل الأزمة «بسوادها» وكل الإنهيار الصحي «بثقله»، لكنه، حين كان هو خارج سلطة القرار، كان يغرّد ما يعجب الناس. فماذا عنه اليوم؟ فليستقل. فليستقل كل مسؤول يعلن عدم قدرته على توفير أقله دواء الى مرضى يهلكون لعدم وجود حبة دواء.