لم تعترف المراجع الديبلوماسية الفرنسية بعد بأي رواية او سيناريو نُسج في لبنان حول مصير مهمّة الموفد الرئاسي الخاص بلبنان جان ايف لودريان، ولم يقدّم المعنيون بعد أي موعد للزيارة على وقع مجموعة المواعيد التي ضُربت ما بين النصف الأول او الثاني من أيلول المقبل. وهي لم تلق أي ردّ فرنسي حتى هذه اللحظة، ما عزّز الاعتقاد إن كانت هناك حاجة للجولة الثالثة المرتقبة له إلى بيروت؟
لا ترغب المراجع الديبلوماسية الفرنسية بتقديم أي معلومة حول ما يمكن ان يقوم به الودريان في شأن المهمّة التي كُلّف بها في لبنان، فهي تتريث وتزين عباراتها بدقّة متناهية عند اي سؤال يوجّه إلى المعنيين بالملف، سواء كانوا في باريس او في بيروت. ففريقه موزع بين العاصمتين يتابع بدقّة مختلف التطورات في لبنان ويرصد أنفاس القيادات اللبنانية المرحّبة بالمبادرة التي حملتها رسائله، ومعها ممن عبّروا عن سيل من الملاحظات المنطقية وغير المنطقية، في محاولة لإجراء فرز دقيق لا يخفي مشاعر القلق على مصير المهمّة وما يمكن ان تنتهي اليه .
وفي اعتقاد أحد المتابعين لهذا الملف، أن ليس هناك في القراءة الفرنسية العميقة لخريطة المواقف من فروقات بين مواقف الرافضين والموافقين. ففي حنايا مواقف المؤيّدين لمضمون رسائل لودريان في العلن ما يوحي بوجود عقبات أكبر من تلك التي يمكن ان يواجهها مع من رفضوها. ومردّ هذا الكم من التناقضات، انّ لدى من رحّبوا وسلّموا السفارة الفرنسية اجوبتهم ما يكفي من الشروط المبطنة، بما يؤدي إلى إبطال مفاعيلها وجعلها من غير فائدة إن بقيوا متمسكين بشروطهم السابقة، معتبرين انّ الامور يمكن ان تُحتسب بظاهرها الإيجابي قبل ان يسدّوا الطريق إلى ما يمكن ان تقود اليه المبادرة.
عند هذه التفاصيل، توقفت المراجع الديبلوماسية لتعترف انّ ممثلي الدول الخمس من أعضاء «لقاء باريس الخماسي» باتوا في الأجواء، وانّ من لم يطّلع مباشرة من لودريان على ما قصده من رسائله وفق التصنيف الذي أجراه عند تحديده أسماء «المستجوبين خطياً» لم يكن بعيداً من اجواء القوى اللبنانية الأساسية المعنية بالاستحقاق. فحركة المشاورات الديبلوماسية وبطرق مختلفة، لم تتوقف، وأنّ الامور لا تُقاس بما يمكن الإعلان عنه. ففي بيروت موفدون قطريون يقومون باتصالات بعيدة من الأضواء وفق خطة اعتُمدت منذ شهرين على الاقل، وانّ من بين طاقم السفارة الفرنسية من ناقش بعض المعنيين بالاستحقاق في كثير من التفاصيل، ما هو مطلوب بالإضافة الى الحراك الذي يقوم به السفير الفرنسي الجديد هيرفيه ماغروعلى هدي المشاورات التي تُدار من باريس لحظة بلحظة.
وفي المعلومات المتداولة على نطاق ضيّق، انّ لودريان كان على تواصل في الساعات القليلة الماضية مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبيل اجتماع سفراء فرنسا في المنطقة الذي عُقد في الساعات القليلة الماضية، وخُصّص جانب منه للملف اللبناني في حضور ماغرو ونظيرته السابقة في بيروت آن غريو إلى جانب لودريان وفريق الأزمة الذي كان يتولّى المهمّة قبل تكليفه في 8 حزيران الماضي المهمّة الجديدة. وإن لم تتوافر بعد كل المعطيات التي انتهت اليها المناقشات التي شارك فيها سفراء فرنسا في دول «اللقاء الباريسي الخماسي» فإنّ بحثاً عميقاً تناول مختلف الجوانب المحيطة بالملف، بما فيها موزاييك المواقف الإقليمية والدولية المؤثرة في كثير من الخطوات التي كان ينتظرها لودريان ولم تتحقق بعد. وهو كان يرغب بالحصول عليها قبل تقييم التدخّلات الخارجية التي حالت دون تسهيل مهمّته في الداخل اللبناني حتى اليوم. فهو تلقّى وعوداً واضحة في لقاء الدوحة في 17 تموز الماضي من بعض أعضاء اللجنة الخماسية، تخفّف من المواقف المتصلبة لدى افرقاء أساسيين، قبل ان يثبت لديه انّها لم تتحقق، لا بل فإنّ بعضا منها استدرج الجميع من حلفاء وخصوم إلى الاحتفاظ بمواقعهم المتناقضة كما كانت في السابق. إن لم تزد المواقف التصعيدية من عناد بعضهم إلى درجة التحذير من مخاطر التعنّت عند مقاربة ملف يحتاج حلّه إلى تنازلات كبيرة متبادلة مطلوبة من الجميع بلا استثناء، إلى درجة تقتضي التضحية برغبات دفينة ما زالت تراود البعض رغم علمه باستحالة تحقيقها مهما طال الزمن. وخصوصاً تلك الجهات التي لا تزال تعتقد انّها تمسك بالحلول النهائية دون سواها، ولا بدّ لها من ان تحقّق مبتغاها اياً كانت كلفتها وفترة تحقيقها، من دون النظر إلى حجم تداعياتها والانهيارات الخطيرة المتتالية المحتملة في أكثر من قطاع في البلاد.
وفي انتظار ان تتدفق المعلومات الإضافية في الساعات المقبلة لتكوين فكرة كافية عن لقاءات باريس التقييمية، وما قصده ماكرون من إشارته تجاه «التدخّلات الإقليمية في هذا البلد ومن ضمنها تدخّل ايران» كما قال. وهو أمر متوقع مع عودة السفير الفرنسي الجديد الى بيروت، الذي استقبلت أمس نظيره القطري الجديد الشيخ سعود بن عبد الرحمن بن فيصل ثاني آل ثاني، الذي لقي استقبالاً لافتاً غير مسبوق. فتظاهرة مستقبليه في المطار لم يتوقّعها أحد. وقد تقدّمهم ممثل وزارة الخارجية نائب مدير المراسم القنصل سلام الأشقر وسفراء الدول العربية المعتمدة لدى لبنان: السعودية، فلسطين، اليمن، سلطنة عمان، ومعهم سفير جامعة الدول العربية عبد الرحمن الصلح ونواب السفراء والقائمين بالأعمال من دول مصر، الجزائر، السودان، الكويت، الاردن، المغرب، تونس، إضافة الى طاقم ديبلوماسي من السفارة القطرية لدى لبنان. وهو أمر لم يحصل من قبل، ما شكّل إشارة لافتة الى دور السفير الجديد، ليس كونه ابن العائلة الأميرية القطرية بل لأنّه سيكون سفيراً مفوضاً فوق العادة.
وإلى هذه التطورات المتلاحقة في المنطقة والتي لا يلاقيها سوى مزيد من المناكفات والتحدّيات الداخلية، فقد عكست تقارير ديبلوماسية مزيداً من المخاوف على مصير مهمّة لودريان. فباريس التي لم تحقق حتى اليوم من مسلسل مبادراتها التي أطلقتها منذ السادس من آب 2020 تاريخ زيارة ماكرون الشهيرة لبيروت بعد يومين على تفجير مرفئها، أي وعد قطعته وتعهّدت به لا حكومياً ولا إصلاحياً ولا رئاسياً. فكيف سيكون مصير مبادرتها الجديدة إن صحّت المعلومات حول ما تتعرّض له من انتقادات فرنسية داخلية قاسية، لم تتعرّض لمثيلاتها سوى في بيروت، مضافةً الى الإهمال الدولي. وعليه بقي الرهان قائماً على احتمال ان تتطور المبادرات الاخرى والقطرية منها خصوصاً إن صحّت الإشارات التي قالت عن تقدّم حققته على خط الدوحة ـ طهران في انتظار تلمّس ما هو ايجابي.
ولكن ما يفرمل هذه الرؤى والتوقعات، أنّ كثافة الموفدين الإيرانيين الى بيروت في الاسابيع القليلة الماضية لم تتضح نتائجها بعد، وخصوصاً بما يشير إلى قرار او توجّه يدعو «حزب الله» وعبره «الثنائي الشيعي» إلى التنازل عن سقوفه العالية من اجل الحل، وإن لم يتحقق ذلك ستصدق روايات اخرى تتحدث عن مصير قاتم للمبادرة الفرنسية، قد تصل الى البحث الجدّي عن ضرورة قيام لودريان بجولته المقبلة من عدمها، فلا تكون «الثالثة ثابتة». وإلى الملتقى مع السيناريوهات الغامضة والمقلقة؟