أولاً: مهمة لودريان
يتخذ موضوع انتخاب رئيس جمهورية جديد للبنان أبعاداً جديدة بعد التطورات الأخيرة على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية وذلك بوصول وزير الخارجية الفرنسي السابق وممثل الرئيس ماكرون إلى لبنان جان- إيف لودريان في مهمة صعبة. ومع أنّ المهمة وصفت بأنّها استطلاعيّة، فإنّ الكثيرين من المعنيين بالشأن اللبناني ينظرون وينتظرون ما ستسفر عنه هذه الزيارة، وما هو الخط السياسي الجديد الذي سيرسو عليه الموقف الفرنسي من القضية اللبنانية عامة، وانتخاب رئيس الجمهورية خاصة. وإلى أي مدى ستكون فرنسا مستعدة وجاهزة بقبول اجراء تعديل، لا بل تبديل في سياستها اللبنانية. وسيكون للوزير لودريان دور مهمّ وأساسي في الاستراتيجية الفرنسية الجديدة إزاء لبنان في حال تمّ ذلك، وذلك بفضل ستة عوامل.
الأول: ما يتمتّع به الوزير لودريان من تقدير واحترام في الوسط الفرنسي.
الثاني: معرفته الدقيقة بمختلف جوانب الوضعية اللبنانية والإقليمية.
الثالث: كون مقترحاته ستكون نابعة من اعتبارات جيو- سياسية أو علمية وليس من اعتبارات شخصية.
الرابع: إنّ هذه هي المناسبة الصحيحة وربما الوحيدة لكي تظل فرنسا ذات كلمة ودور وفاعلية في الموضوع اللبناني.
الخامس: هناك اعتبارات عقائدية روحية لا تستطيع فرنسا الخروج منها أو عليها وفي مقدمها موقف الفاتيكان من الجمهورية اللبنانية ومن مصير المسيحيين فيها: كنيسة وشعباً.
السادس: إنّ اتصالات فرنسا مع كافة القوى الاقليمية أكّدت وجوب اعتماد خيارات أكثر واقعية وانسجاماً مع الوضعية اللبنانية وبشكل خاص وضعية المسيحيين في لبنان، وما يعانونه حالياً من ضغوط وتهميش وتنكيل على يد القوى الميليشيوية.
ثانياً: التصوّرات التخيليّة الخادعة fantasmes
تسعى قوى الأمر الواقع في لبنان لأن تفرض رأيها في موضوع رئاسة الجمهورية كما في غيرها من الموضوعات، لا بل أكثر منها وأهمها، ولا سيما الثنائي الشيعي.
1 – فهو أعلن ترشيحاً لا رجعة عنه (ولم نقل أعلن مرشحه لأسباب تاريخية).
2 – في مقدمة هذه الأسباب التزامه التاريخي أمام رئيس نظام عربي إقليمي بالسير عام 2016 بالعماد ميشال عون بالافضلية نظراً لتقدمه في السن على أن يكون الولاء بعده للوزير السابق سليمان فرنجية.
3 – إنّ ما يحدث الآن يؤكد أنّ التزام الثنائي بفرنجية صحيح، ولكن ما هو أصحّ منه أنّه يأتي بعد الالتزام السياسي الاستراتيجي لرئيس نظام عربي معني بالسيطرة على لبنان. من هنا لا يعود الموضوع شخصياً أو حزبياً فقط، بل يتصل بالالتزامات الإقليمية والدولية للكتلة الشيعية في لبنان.
4 – إنّ التصريحات التهديدية والنارية التي يطلقها بعض ممثلي هذه الجماعة تؤكد الإصرار على الخيار وعدم التراجع عنه تحت أي ظرف، وذلك تبريراً للتعهدات التي قطعت للرئيس المعني بالوضعية اللبنانية، كما يفسر تشويه صورة كل شخصية أخرى غير المتفق عليه، كي يقفل الباب أمام كل محاولة لإيجاد حل وسط في الموضوع.
5 – أمّا الدعوة إلى الحوار والنقاش حول موضوع الرئاسة فهو لا يخرج عن لعبة تقطيع الوقت تمهيداً لتنفيذ التعهد المقطوع، من هنا عدم جدية هذا الحوار الفلكلوري إذ هو يستبدل نص الدستور بكلام الغرف المغلقة. ويستبدل مبدأ الانتخاب بلعبة السؤال والجواب. ومن يسأل ومن يجيب ومن يلتزم بالاسئلة والأجوبة؟ وكيف؟
6 – الغريب والمريب في هذا الطرح أنّ الداعين اليه كمدخل لا بد منه لإختيار رئيس مسيحي للجمهورية، لماذا لا يذهبون إلى القاعدة الشاملة كمثل هذا الاقتراع، وهو جعل الحوار مدخلاً أيضاً لإختيار رئيس مجلس النواب الشيعي ورئيس مجلس الوزراء السني. لماذا يقصرون هذا الأمر على المسيحيين فقط؟
ثالثاً: مهمة لودريان: بين الصعب والسهل!
1 – يمكن القول بالتأكيد إنّ مهمة لودريان هي من أصعب المهمات السياسية نظراً للتفاعلات والصدمات التي تشهدها الساحة اللبنانية في هذه الأيام، بين قوى داخلية، ذات خلفيات إقليمية تندرج في ثلاثة اتجاهات: المنظومة بغالبية شيعية، المعارضة بغالبية مسيحية، الرماديون بغالبية سنية. فهو لن يكون قادراً على إقناع جهة بقبول السير خلف جهة أخرى أو معها، ولذا سيكون كل مشروع في هذا المجال محاولة خاسرة سلفاً.
2 – يقود التبصّر في إعلان لودريان وهو المعروف بذكائه وحنكته السياسية عن برنامج استقباله لأربعة من مرشحي الرئاسة هم: سليمان فرنجية، جهاد أزعور، العماد جوزيف عون وزياد بارود، مع الكثيرين من ممثلي القوى السياسية اللبنانية المدعوة إلى الغداء يوم الجمعة في قصر الصنوبر 23/6/2023، إلى تأكيد أمر أساسي وهو أنّ لودريان قد اختار لنفسه المخرج وربّما الحلّ لمعركة رئاسة الجمهورية.
3 – إنّ ثلاثة أسماء من اللائحة هي مدخل لصراع بين القوى المتواجدة على الساحة اللبنانية: فرنجية – أزعور – عون، الاسم الوحيد خارج المعادلة هو الوزير السابق زياد بارود. وفي اعتقادنا، وليس أبداً انطلاقاً من معلومات أو مصادر أو مراجع معينة، في تصورنا أنّ لودريان سيقترح على الرئيس ماكرون السعي لإيصال الوزير السابق زياد بارود إلى الرئاسة: فهو لا يشكل تحدياً لأي جهة لبنانية. وهو أكاديمي معروف ومشهور بقدراته القانونية والادارية. وهو لبناني أصيل يمثّل بكل تأكيد القاعدة المركزية المارونية في كسروان: كنيسة وجماعة. وهو رجل قانون وإصلاح سياسي إداري مالي قضائي. وكما يقول المثل: نحن شهود عليه يوم كان ممثلاً لفؤاد بطرس في لجنة قانون الانتخابات الذي وضعناه آنذاك.
في الخلاصة، إنّ انتخاب رئيس جمهورية للبنان مسألة معقدة نظراً لتدخل قوى الداخل والخارج فيها، وإنّ اختيار الرئيس الفرنسي ماكرون للوزير لودريان هو في الوقت عينه اختيار لحل المسألة اللبنانية. واختيار لإخراج الرئيس الفرنسي نفسه من المأزق الذي وضع نفسه فيه. إنّ اختيار بارود كرئيس حل للمشكلة اللبنانية هو خيار ناجح لمسألة معقدة. يبقى على بارود خلق الأجواء والقوى المحيطة به والقادرة على انجاح مهمته الصعبة. وفي اعتقادنا أنه بوطنيته وأخلاقيته ومناقبيته سينجح! وعلى الجميع مساعدته كي ينجح وينقذ الوطن!
(*) باحث في الفكر الجيوسياسي