ما زالت المواقف التي أطلقها الأمين العام حزب الله السيد حسن نصر الله، خلال مقابلته مع قناة «المنار» (12 تموز 2019) تتفاعل في اسرائيل. واللافت أن مظاهر هذا التفاعل ما زالت تتوالى على لسان رأس الهرم السياسي بنيامين نتنياهو. لم يكتف رئيس وزراء العدو بالموقف الذي أطلقه في جلسة الحكومة، عقب المقابلة، متوعداً بعدوان ساحق لحزب الله ولبنان، بل عاد وكرره في كلمته في ذكرى قتلى حرب لبنان الثانية.
يكشف تكرار تهديدات نتنياهو شدة وقع رسائل نصر الله على الواقع الاسرائيلي ولدى صنّاع القرار تحديداً. ومن الواضح أنهم فهموا سياقها وجديتها والمدى الذي يمكن أن يبلغه رد حزب الله، متجاوزاً كل الاوهام التي يفترضونها قيوداً.
يلاحظ على تلويح نتنياهو برد ساحق، أنه غير ذي صلة بمواجهة رسائل نصر الله، لأن رداً اسرائيلياً كهذا قد يكون فاعلاً ومؤثراً في مواجهة خيارات حرب يبدأها حزب الله. في حين أن ما توعد به الامين العام للحزب، في استهداف هائل للمنطقة (وسط فلسطين المحتلة) التي تشكل العمود الفقري للكيان الاسرائيلي على المستويين الاستراتيجي والاقتصادي، كان في سياق الرد والدفاع في مواجهة عدوان اسرائيلي – اميركي واسع. وبالمقارنة بين الرسائل المتبادلة، وسياقاتها، يتجلى مفهوم الردع في أعلى درجاته. مع الاشارة الى أن نصر الله شكك في كون حزب الله مردوعاً، وهو ما ستتوقف عنده أجهزة التقدير والقرار في تل أبيب.
في المحطة الثانية من الرد، تناول نتنياهو أكثر من عنوان يتصل بمناسبة ذكرى حرب 2006، برز من ضمنها ما اعلنه عن أن اسرائيل لن تسمح بـ«لبنان ثان في سوريا». وهو ما ينطوي على أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه:
في ما يتعلق بالمناسبة، (ذكرى حرب لبنان الثانية)، يؤكد موقف نتنياهو الصريح عمق الهزيمة التي تلقتها اسرائيل خلال حرب العام 2006، كونها لم تقتصر على فشل أهدافها، بل ايضاً لكون حزب الله فرض إرادته على كيان العدو من خلال توفير مظلة ردع بالاستناد الى نتائج الحرب، وفّرت الارضية لتطوير قدراته العسكرية والصاروخية، اضافة الى فشل أهداف اسرائيل في الخيارات والرهانات التي استندت اليها طوال السنوات التي تلت.
مثّل هذا الاعلان إقراراً من قبل نتنياهو نفسه بأن لبنان المقاومة، شكل نموذجاً ناجحاً في مواجهة اسرائيل، حتى بات يُخشى من تكراره في ساحات أخرى. ويعني موقف نتنياهو، ايضاً، أن هدف اسرائيل محاولة محاصرة هذا النموذج لمنعه من التمدد بعدما فشلت في القضاء عليه.
الاهم في هذه المرحلة، أن موقف نتنياهو يكشف ويؤكد حقيقة أهداف اسرائيل من وراء اعتداءاتها المتواصلة على الساحة السورية، بقوله إن اسرائيل لن تسمح بـ«لبنان ثان في سوريا»، وهو ما يعني أن اسرائيل تهدف من وراء ذلك الى منع بناء وتطوير القدرات السورية، بالاستناد الى التجربة الناجحة في لبنان في الصراع مع اسرائيل.
في ما يتعلق بلبنان، اختصر نتنياهو التحديات التي تواجه اسرائيل بـ: «سيطرة الإسلام الراديكالي على دولة جارة. الثاني، دخول صواريخ إلى لبنان وبشكل خاص صواريخ دقيقة. والثالث خطر التسلل إلى أراضينا، فوق أو تحت سطح الأرض».
بالنسبة إلى التحدي الاول، يلاحظ أن نتنياهو كشف عن أولوية اسرائيل الدعائية في هذه المرحلة التي يمر بها الصراع، عبر الترويج لمقولة أن حزب الله يسيطر على الدولة اللبنانية، مع أنه يعلم بأن الامر ليس كذلك. لكنه يهدف من وراء ذلك الى التحريض على الحزب ولبنان دولياً. ويهدف ايضاً الى الضغط على السلطة السياسية في لبنان للابتعاد عن حزب الله.
ويعكس تخصيص نتنياهو الحديث عن الصواريخ الدقيقة باعتبارها أحد أهم التحديات انطلاقا من لبنان، حجم التهديد الذي يشكله هذا السلاح على العمق الاستراتيجي. ويكشف أن اسرائيل يئست من إمكان منع المقاومة من تخزين انواع الصواريخ الأخرى، التي استطاع حزب الله من خلالها أن يفرض على اسرائيل معادلة ردع اقليمي، منذ أكثر من عقد، وامتدت ظلالها الى العمق الاستراتيجي للمقاومة، وشكلت أحد الضوابط الأساسية التي كبحت خيارات العدو خلال مواجهة التهديد التكفيري. يعود هذا الانزياح في الخطوط الحمراء الى كون الخطر الصاروخي «غير الدقيق»، أصبح أمراً واقعاً وبحسب الارقام الاسرائيلية تجاوز الـ 150 ألف صاروخ، ولم يعد بوسع اسرائيل أن تفعل معه شيئاً.
رغم تباهي نتنياهو المتواصل باكتشاف عدد من الانفاق على الحدود مع لبنان، يعترف في هذا الموقف، (التسلل من فوق وتحت الارض) بأن اسرائيل تواجه خطر اقتحام حزب الله شمال فلسطين المحتلة، من فوق الارض وتحتها، وهو ما يؤكد حقيقة أن اسرائيل تدرك جيداً – وعلى النقيض مما أوحت به سابقاً – بأن اكتشاف عدد من الانفاق لم يسلب حزب الله هذا العنصر المهام في قوته الردعية والدفاعية (وان كانت تأخذ طابعاً هجومياً). ويوحي ايضاً بأن العدو يتعامل بشكل جدي مع احتمالات مرتفعة بأن يكون لدى حزب الله المزيد من هذه الانفاق، لكن اسرائيل لم تكتشفها.
مع أن نتنياهو حاول أن يختتم كلمته بما تتباهى به حكومته، إلا أن هذه المحاولة كشفت ارتداعه أمام حزب الله، فاعتبر أن «المبدأ الأساسي الذي سأقود فيه حكومة برئاستي سهل – من يعتزم قتلك قم واقتله وامنع تسلحه بشكل أساسي بسلاح متطور». تناسى نتنياهو حقيقة أن حزب الله راكم وطوّر قدراته بشكل أساسي خلال فترة توليه الحكومة، منذ عام 2009، حتى تحوّل (حزب الله) في الفترة نفسها الى قوة اقليمية. وتجاهل نتنياهو أيضاً أنه بالرغم من انتقاداته لسلفه (ايهود اولمرت) خلال حرب العام 2006، إلا أنه نفسه ارتدع عن شن حرب على لبنان، بل عمّا هو دون ذلك، عبر توسيع نطاق «المعركة بين الحروب» (التي يخوضها في سوريا) الى الاراضي اللبنانية، تنفيذاً للمبدأ الذي أشار اليه، والسبب كان وما زال الخوف من رد حزب الله القاسي الذي قد يؤدي الى تدحرج نحو مواجهة واسعة.
أما الاعتداءات التي تشنها اسرائيل في سوريا ترجمة لهذا المبدأ، فنتنياهو نفسه كان مرتدعاً عن تنفيذ هذا الخيار منذ توليه منصبه في العام 2009 الى مطلع العام 2013، رغم كل التهويل الذي مارسه في تلك الفترة. لكنه لم يتجرأ على الانتقال الى التنفيذ بهدف منع تراكم قدرات حزب الله. أما لماذا وكيف نجحت اسرائيل في فرض مساحة من هامش المبادرة، حتى الان؟ فيعود ذلك كما هو واضح الى الجماعات الارهابية والتكفيرية ودورها في إضعاف القدرة الردعية لمحور المقاومة في سوريا.
الذروة في هذا المسار، والتي تحتاج الى المزيد من البحث المعمق، أن المواقف التي أطلقها الأمين العام لحزب الله في مقابلته مع «المنار»، كشفت عن قفزة جديدة في معادلة الردع الاقليمي، تمثلت في تحويل الأمن القومي للكيان الاسرائيلي الى رهينة يلوّح بها محور المقاومة للضغط على صانع القرار في تل ابيب وواشنطن في مواجهة احتمال بحث خيارات عدوانية واسعة.